كان اصرار النظام السوري علي اجراء ##انتخابات##, بالأساليب والبضاعة السياسية والنتائج المعلبة ذاتها, مؤشرا آخر علي الاستهزاء بـ##الحل السياسي## الذي تسعي اليه ##خطة انان## التي يفاخر صاحبها بأن أكبر ##نجاح## حققته يتمثل بـ##الدعم الدولي## لها, وما فائدة دعم كهذا طالما أنها لم تتوصل الي وقف القتل أو الي الضغط علي النظام كي يكف عن استخدام آلياته الحربية لقصف المناطق السكنية والإغارة علي المدنيين. والأهم أنه كان ليكون منطقيا تفعيل الدعم الروسي للمبعوث الدولي – العربي لتأجيل ##انتخابات## أرادها النظام استعراضا لسيطرته لا اقتراعا شعبيا من أجل برلمان يحمل شيئا من ملامح الاصلاح والتغيير.
لم يكن اعتياديا أن يقول ناطق أمريكي إنه قد يكون علي المجتمع الدولي ##الاعتراف بالهزيمة##, أي بفشل مهمة كوفي انان ليدرس الخيارات التالية. وكان الأخير بدأ, قبل أن يقدم تقويمه الي مجلس الأمن, يروج أن ثمة
##مؤشرات بسيطة## الي بدء احترام خطته, بل باشر الاعتراف بواقع أن مهمته ستستغرق وقتا. وفي أحد الأيام مر في شريط تليفزيوني مشهد لأحد المراقبين وهو يحاول طمأنة المواطنين في حماة, غداة مجزرة استهدف فيها ##الشبيحة- البلطجية## عائلات بعينها, قائلا: نحن موجودون هنا ##لوقت طويل##. ومنذ وصل الجنرال النرويجي قائد المراقبين كرر أكثر من مرة أن منسوب العنف يتضاءل تدريجا مع زيادة انتشار المراقبين. أي أن ##خفض المنسوب## هو كل ما يستطيعه المجتمع الدولي, وليس فيه ما يطمئن السوريين, لا المطالبين بإسقاط النظام ولا حتي المصنفين موالين له بدليل أن هؤلاء يسعون الي تنظيم هجرتهم القسرية التي يأملون بأن تكون قصيرة وموقتة, تماما كما كان اللبنانيون يعتقدون ويقولون في مستهل هجراتهم خلال العامين 1976 و1977 أي بعد وصول ##قوات الردع العربية##, وهي القوات التي استوعبها النظام السوري بعدئذ وعمد الي ##تطفيش## العرب منها.
لا, ليس هذا كل ما يستطيعه العالم وانما ما أراده ##تفاهم## روسي – ايراني يفترض أن تبدأ آثاره في الظهور. فهاتان الدولتان وجدتا نفسيهما في ##تحالف## ضمني لم تسعيا اليه سابقا, إلا أن أزمة النظام السوري وتشابك مصالحهما في سورية وخشيتهما عليها فضلا عن تقاطع رغبتيهما في تحدي الغرب شحذت التقارب بينهما. كانت التوقعات بإمكان حدوث تغيير في الموقف الروسي جعلت دمشق وطهران أمام احتمال صعب يتركهما في عزلة وتحت وطأة عقوبات مرهقة, لذلك تبلور خيار زيادة الرهان علي الموقف الروسي لإعطائه ما يمكن أن يواجه به ضغوط الغرب أو اغراءاته. وقبل أن تدخل موسكو أي مساومة مع الغرب, الذي لم يبد استعدادا لتقديم التنازلات اللازمة لاستمالتها الي خيار تغيير النظام في سورية, بحثت عن أي معطي جديد لتوسيع اطار تلك المساومة. ولعلها وجدتها في المفاوضات النووية بين ايران ومجموعة الدول الـ##5+1## التي تكثر للمرة الأولي التكهنات الايجابية في شأنها, وإن كان الطريق طويلا قبل القول بنجاحها.
تجمعت لدي طهران أسباب كثيرة لتغيير منهجها في التفاوض, وأهمها ثلاثة:
1 – اقتراب العقوبات من القطاع النفطي واشتدادها علي التعاملات المالية.
2 – حاجتها الماسة إلي الحفاظ علي الحليف السوري وحماية ##حزب الله## وسلاحه في لبنان وعجزها عن ذلك بمفردها.
3- احتدام التجاذب الدولي حول سورية وبشأن برنامجها النووي وبروز فرصة للاستفادة من المواجهة الروسية – الغربية, وكذلك اتضاح الاصطفاف الغربي الرافض خيار الحرب الاسرائيلي… لكل ذلك, ومن دون إغفال النقاش الداخلي حول البرنامج النووي وآفاقه بعد بلوغ تخصيب اليورانيوم نسبة الـ5%, وجدت إيران أن لديها الآن مصلحة في دخول مساومة كبري مع الغرب, بل السعي الي مفاوضات مثمرة, وبناء علي ##اقتراحات روسية##.
يجري تقديم ##النجاح## أو الاختراق المرتقب في المفاوضات علي أنه مرادف لإنعاش النظام السوري وطمأنته الي أن بقاءه من أهم القطع في المقايضة. وحتي قضية الجزر الإماراتية المحتلة أخرجت من التداول إثر معاودة ايران طرح موافقة مبدئية علي التفاوض الثنائي في شأنها. وإذا لم تحصل مفاجآت, وهي مستبعدة منذ احتكرت دائرة المرشد علي خامنئي الإشراف علي الملف, فإن المؤشرات الأولي لـ##الاختراق## يفترض أن تظهر الأسبوع المقبل في المحادثات بين ايران وإدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا بمشاركة مندوبي الدول الكبري. وفي حال توصلت إلي ما هو متوخي بالنسبة إلي لجم مستوي تخصيب اليورانيوم وأنظمة الرقابة الدائمة, فإنه سيشكل خلفية قوية لحدثين متوقعين في الثلث الأخير من الشهر: الأول مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة الثماني في كامب ديفيد, وهو ظهوره الدولي الأول بعد انتخابه وفرصة أولي لاستمزاجه بشأن ملفات أبرزها سورية وإيران. أما الثاني فهو استئناف المفاوضات النووية في بغداد هذه المرة. وينطوي اختيار العاصمة العراقية علي رمزيات تحقق لإيران أهدافا عدة لعل أهمها – عدا استبعاد انقرة أو اسطنبول – استغلال مكانة العراق في الرئاسة الحالية للقمة العربية, وكذلك تأكيد المكانة الايرانية فيه, فضلا عن تلميع وضعية بغداد كصلة الوصل وعاصمة ##التفاهم الأمريكي – الإيراني## غير المعلن وغير المعترف به علي رغم أنه فاعل بحيوية وواقعية.
ثمة هدف أكثر أهمية لاختيار بغداد, وهو احاطة الدول الـ##5+1## بأن التفاوض فيها يعني التفاوض في مجال ##النفوذ الإقليمي## لإيران الذي سيكون الملف الآخر المقترن بأي اتفاق علي الملف النووي. ولم تكن الحركة التي دبت لتوقيع اتفاقات مع الحكومتين العراقية واللبنانية, وكذلك تسريع اتفاقات بين العراق والكويت, سوي عينة من رسائل لتوكيد ذلك ##النفوذ## الذي باتت طهران ترضي بأن يكون مستظلا بالنفوذ الروسي الأوسع نظرا الي الضرورة التي فرضتها أزمة سورية والحاجة الي انقاذ نظامها. غير أن روسيا وإيران مدركتان أن ##الانقاذ## بات يتطلب نوعا من الجراحة للنظام قد يحين وقتها بعد استنفاد كل الأغراض المرتجاة من ##خطة أنان## التي أمكن موسكو ودمشق أن تصادراها, ذاك أن تنفيس الاحتقان الناجم عن أزمة الملف النووي الإيراني قد يفيد في شراء الوقت للنظام السوري, لكنه لن يكفي لإبقائه كما هو ولضمان مصالح الدولتين ذواتي النفوذ داخل سورية##.
* نقلا عن جريدة الحياة اللندنية