هل الولايات المتحدة في حالة أفول بالفعل؟ من المؤكد أن المرء سيعتقد ذلك, لو نظر لقائمة كتب تتحدث عن هذا الأمر, وذلك علي الرغم من ظهور بعض الكتب التي كتبها ##محافظون جدد## متشددون يرفضون إدانتهم بالتورط في التسبب في ذلك الأفول مثل ##روبرت كاجان## الذي يري أن هناك قدرا ضئيلا للغاية من الأفول المؤقت الذي سينتهي حسبما يري في نوفمبر المقبل, عندما يغلي براد الشاي. أما أوباما فقد تخلي عن نزعته ##الأفولية## وهو ما يتبين من تصريح أدلي به منذ بعض الوقت وقال فيه##إن أي شخص يقول إن أمريكا في حالة أفول, أو أن نفوذنا قد تضاءل, لا يعرف في الحقيقة ما يتحدث عنه##.
حسنا. في الواقع أن هؤلاء الذي يمكن أن يروا ما يراه أوباما هم هؤلاء الذين لم يقوموا بزيارة أوربا أو عاصمة أي دولة من الدول الآسيوية الكبري مؤخرا, حيث كل شيء هناك يعمل بشكل رائع, (حتي وإن لم يتم سداد الديون الأوروبية).
فالقطارات التي تسير بسرعة 200 ميل في الساعة وتقطع أوربا طولا وعرضا لا تبدأ رحلتها أو تنتهي منها في الوقت المحدد بالضبط فحسب, وإنما تعيد إليك أيضا ما دفعته ثمنا للتذكرة إذا ما تأخرت عن مواعيدها. علاوة علي ذلك تتفوق الفنادق في سنغافورة, وطوكيو, والخليج العربي علي الفنادق المنافسة في الولايات المتحدة, كما أن شركات طيرانها الوطنية في تلك البلدان تقدم خدمة لا مثيل لها, بل وتوفر لك مكانا رحبا كي تجلس فيه مرتاحا وتمد قدميك, في الدرجة الاقتصادية.
وحتي الحكومة الأمريكية تتمتع برفاهية الحياة في الخارج. هل سبق لك قضاء ليلة كزائر في ##شقق الضباط الزائرين## في أي قاعدة عسكرية أمريكية رئيسية في الخارج؟(ليس في منطقة قتال, كي أكون منصفا). لقد فعلت ذلك. إن كل شيء في تلك الشقق يشبه ما نراه في طائرة الرئيس الأمريكي(آير فورس-1) حيث يمكنك أن تراهن علي أن كل شيء يعمل, وأن كل رفاهية ستوفر, وكل مظهر من مظاهر الراحة سيقدم, وكل نزوة ستشبع. يالها من متعة ما بعدها متعة لبنات أوباما الصغار! أما الباقون من أمثالنا فهم يسافرون في الدرجة الاقتصادية.
لم كان الأفول إذن؟ لأسباب عدة أولها: العولمة وما قامت به من تدمير في الاقتصاد الأميركي الداخلي الذي يعيش فيه الناس العاديون ويعملون في إطاره. والعولمة بدورها كانت نتاجا لإيديولوجية اقتصادية قالت إن إزالة جميع القواعد سيضمن حرية الأسواق التي ستضمن بدورها أقصي كفاءة اقتصادية ممكنة وما سيتلو ذلك من أرباح طائلة في كل مجال من المجالات الإنسانية باستثناء الحرب والسلام (علي أساس أن هناك أولويات أخري تحكم الحرب والسلام).
ثانيا: التبسيط المخل غير العقلاني, مضافا إليه الجهل الناتج عن انهيار نظام التعليم العام. والأخير له سبب, ولكنه لم يكن مقبولا سياسيا أن يتم تعريفه به ألا وهو: تحرير المرأة.
ففي الولايات المتحدة, في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية, كان التدريس في المدارس العمومية أو الدينية هو العمل الجاد الوحيد المتاح أمام النساء من خريجي الجامعات, الذين قاموا بتعليم أمريكا كلها علي خير وجه. أما الآن, فالنساء لديهن أشياء أخري يمكنهن عملها, ونحن نشكرهن عليها لا شك في ذلك. ولكن الأمة كلها تعاني العواقب.
وهناك سبب آخر ليس بالتافه بحال, وهو ذلك العدد الهائل من المشاهدين سريعي التصديق الذين خلقوا من أجل الأوهام السياسية التي يروجها ذلك النفر من الديماجوجيين في قنوات فوكس , والبرامج الحوارية الإذاعية. ومن عواقب هذا الأمر ذلك الفساد الثقافي الذي يتسم به في الوقت الراهن السجال السياسي وكذلك الفساد المالي للممارسات الأمريكية السياسية, وللحكومة كذلك التي وضعت طبقة من الأغنياء والأثرياء في موقع السيطرة, دون أن توجد لديها رؤية واضحة لكيفية زحزحتهم عن ذلك الموقع.
وكافة وكلاء التغيير الممكن- الكونجرس, والأحزاب الوطنية, والإذاعة, وانضم إليهم مؤخرا القضاء- ملتزمون في الوقت الراهن بالنظام القائم سواء كان ثقافيا, أو من خلال المصالح الشخصية والمؤسساتية. ويمثل هذا تجسيدا واضحا للأفول القومي الواضح للعيان سواء أمام أعين من هم داخل أمريكا أو من هم خارجها.
إن التجسيد الخارجي للأفول, المتمثل في النظرة المستسلمة في أعين الأمريكيين العاديين, هي الصين. فالناس يعتقدون أنه يجب أن يكون هناك دوما أمة قائدة: إذ هذا علي الأقل هو ما تعلمناه من دراسة التاريخ.
فروما حكمت العالم, كما فعلت الإمبراطورية البريطانية بعد ذلك. أما العصور الوسطي, وحركة الإصلاح, وفرنسا ونابليون, ثم الثورة الروسية, فقد خلطوا مع بعض في مرحلة ما علي امتداد الطريق. وبعد ذلك كانت هناك الحربان العالميتان الأولي والثانية, ثم الحرب الباردة, وكنا في ذلك الوقت نقود العالم عندما كنا نمتلك أفضل القيم.
أما الآن, فإن آسيا هي التي تقترب من هذه المكانة. لقد اعتقدنا نحن معشر الأمريكيين أننا قد حسمنا أمر آسيا بالقنبلة الذرية عام 1945, ولكن ها هي أمامنا مرة أخري, ولكنها بدلا من أن تكون آسيا اليابانيين الأذكياء الملتزمين, أو كتل من الفلاحين, إذا بها آسيا الصين الحديثة التي تدين لها الولايات المتحدة بمبالغ أكبر مما نحب أن نعتقد, والتي تصنع أو تمتلك معظم ما نقوم باستيراده, وتشتري المواد الخام من مختلف أنحاء العالم, وتبني حاملات الطائرات, والتي كنا نعتقد منذ أن أغرقنا حاملات الطائرات اليابانية, أننا الوحيدون في العالم الذين نملكها.
وأقول: نعم الولايات المتحدة في حالة أفول. والموضوع خطير نظرا لما يعنيه ذلك لشخصية ومستقبل الأمة الأمريكية ذاتها, وليس فقط لما يعنيه بالنسبة لترتيبها في العالم, أو لسمعتها, أو قوتها في ذلك العالم. الولايات المتحدة تقوم بإضاعة قيمها التقليدية, وتبيع حقوق ميلادها, مقابل كومة من الأواني الفخارية, والقيام بذلك الآن سيكون شيئا أبعد ما يكون عن الحكمة والبصيرة.
واشنطن بوست