لعل من الأمور الملتبسة حول العلمانية عزلها عن سياقها وعن تطورها التاريخي, فالمسألة ليست تعريفا من عدة كلمات فقط ولكن تطور تاريخي عبر تراكم الخبرة الإنسانية, مما ساعد علي تحويل التعريفات إلي مفاهيم شاملة, كما أن هذا التطور التاريخي ربط المفاهيم ببعضها البعض للوصول إلي الغرض الإنساني من التطور نحو التقدم. من هنا يجب توضيح عدد من الأمور المرتبطة بمفهوم العلمانية.
* العلمانية واحدة من المفاهيم والمبادئ التي تشكل أسس الدولة العصرية الحديثة ونهضتها وتقدمها للوصول إلي الحكم الرشيد, وهذه المفاهيم حزمة واحدة مثل الأساسات التي يقام عليها المبني, ولا تستقيم الدولة العصرية الحديثة بغياب أحدها وهي: المواطنة-الحريات- الديموقراطية-العلمانية-التنويروالعقلانية-حكم المؤسسات والقانون.ولهذا لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية صحيحة في حالة غياب باقي هذه المنظومة, ولا توجد مواطنة في حالة غياب باقي المكونات.
مفهوم العلمانية منذ أن صكه الكاتب الإنجليزي جورج هوليوك عام 1851 تحول بمرور الزمن إلي قيمة إنسانية ليست مقصورة علي الغرب, وإنما هي إحدي مقومات التقدم الإنساني بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الموقع الجغرافي أو اللغة,تأخذ به الولايات المتحدة المسيحية, وتأخذ به تركيا المسلمة, والهند الهندوسية, واليابان البوذية وإسرائيل اليهودية.
العلمانية ليست ضد الدين نهائيا ولا ضد التدين كما يردد البعض في الدول الإسلامية علي وجه الخصوص, فالمسلمون يرتدون الزي الإسلامي بكافة أشكاله في الغرب العلماني بل أن أكبر درجة من الحريات الدينية متاحة للمسلمين هي في الغرب العلماني وليست في الدول الإسلامية,حتي وصل الأمر أن هذا الغرب يحتضن الكثير من قادة الجماعات الإسلامية المتطرفة.
* بالتأكيد أن العلمانية هي ضد الدولة الدينية التي يحكمها رجال دين أو حكام يدعون أنهم يمثلون الله علي الأرض أو المحكومة بشريعة دينية وقوانين دينية أو الدولة التي يسيطر علي مجالها العام ونظامها العام الطابع والأطر الدينية.
* هناك تعريفات كثيرة للعلمانية منذ تأسيس المصطلح, ولكن ما يهمني هي المبادئ الرئيسية للمفهوم والتي إذا وجدناها في دولة نقول عنها إنها علمانية, وهذه المبادئ يمكن تلخيصها في الأتي:
- الفصل بين السياسي والديني وبين الروحي والزمني وبين العام والخاص.
- حرية الضمير
- التسامح الديني
- حرية النقد الديني
- إعمال العقل وحريته
- نسبية المعرفة
- حياد الدولة تجاه الأديان
- التشريع البشري وليس الديني
- الحكم البشري وليس الديني
- عدم وجود سلطة للزعماء الدينيين علي القرار السياسي
- لا تتخذ الدولة دينا معينا ولا تفرضه ولا تدافع عنه وتحميه ولا تعاقب تاركيه ولا تراقب تنفيذ أوامره ونواهيه.
- ليس من اختصاص الدولة إدخال الفرد للجنة ولكن وظائفها حمايته ورفاهيته.
- حماية حقوق الأقليات الدينية.
- العلمانية ضد الدولة الدينية وليست ضد الدين
- في العلمانية الدين علاقة خاصة عمودية بين الإنسان وربه لا دخل لأحد فيها.
* الشروط السابقة قد لا تكون متوفرة كلها بدرجة كاملة أي بنسبة 100% في أي دولة, وهنا يأتي قياس درجة علمانية الدولة وفقا لتطبيق هذه المبادئ, ولهذا يحدث كما في أشياء كثيرة تصنيف وترتيب للدول وفقا لتطبيق مفاهيم العلوم الاجتماعية أو التصنيف والترتيب وفقا لمؤشرات علمية.
كل هذه المفاهيم هي نتاج الدولة القومية الحديثة التي تأسست بعد صلح وستافليا عام 1948.