بعد حياة حافلة بالبر والخير وهن الجسد الطوباوي لقداسة البابا شنودة واستسلم لوطأة المرض الذي قاومه بإيمان وبإرادة قويين طوال الأعوام الأخيرة. لم تفلح الدعوات الحارة من شعبه ومن محبيه لأن يتعافي ويعود إلي نشاطه المعتاد وانتصرت المشيئة الإلهية لاستدعائه إلي السماء وتحرير روحه من الجسد الذي أنهكه المرض
بعد حياة حافلة بالبر والخير وهن الجسد الطوباوي لقداسة البابا شنودة واستسلم لوطأة المرض الذي قاومه بإيمان وبإرادة قويين طوال الأعوام الأخيرة. لم تفلح الدعوات الحارة من شعبه ومن محبيه لأن يتعافي ويعود إلي نشاطه المعتاد وانتصرت المشيئة الإلهية لاستدعائه إلي السماء وتحرير روحه من الجسد الذي أنهكه المرض.
كتبت في مناسبة سابقة عن قداسة البابا ووصفته بأنه علامة فارقة في تاريخ بابوات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وحاولت جاهدا أن أبحث عن وصف مختلف هنا لئلا أكرر نفسي ففشلت… إنه بالحق علامة فارقة… هو البابا رقم (117) في عداد بابوات الكنيسة, لكنه لم يكن مجرد رأس الكنيسة الجالس علي كرسي مارمرقس لرعاية شعبه, بل سيكتب له التاريخ أنه ارتقي بالمنصب وبالكنيسة وانتقل بهما إلي مصاف غير مسبوقة تمشيا مع مقتضيات العصر الذي شهد حبريته المباركة التي امتدت أكثر من أربعين عاما (نوفمبر 1971- مارس 2012).
لم يكن غريبا علي الراهب أنطونيوس السرياني الذي وهب نفسه للرهبنة وكرس طاقاته للدراسة والبحث حتي تمت رسامته أسقفا للتعليم علي يدي سلفه قداسة البابا كيرلس السادس, أن تشهد الكنيسة في حبريته نهضة عظيمة لإحياء الدراسات اللاهوتية والتاريخية وبعث حركة الرهبنة الديرية التي حفظت الكنيسة وتراثها عبر القرون… ذلك الجهد التاريخي لم يخل من إنجازات مهمة في سياق النهوض بالأديرة العامرة وتوسعاتها, علاوة علي تعمير الأديرة القديمة غير المأهولة وإعادة الحياة الديرية والرهبنة في رحابها.
أما عن الكنيسة كمظلة روحية للشعب القبطي لإقامة الصلوات والشعائر فقد شهدت امتدادا ونموا غير مسبوقين في عهد البابا شنودة… فبجانب الامتداد والنمو الطبيعيين محليا داخل مصر- بالرغم من العسر التشريعي والمضايقات الإجرائية المعهودة- سيظل الإنجاز الأكبر في هذا الإطار هو خروج الكنيسة من إطار المحلية إلي العالمية وراء أبنائها الذين هاجروا من مصر إلي شتي بقاع العالم… سواء في محيطنا العربي أو إلي دول المهجر في أوربا وأمريكا وأستراليا… ذهب الأقباط ضمن كثير من المصريين ليصنعوا لأنفسهم ولأسرهم مستقبلا أفضل خارج مصر فذهبت معهم الكنيسة لتضطلع بدور وطني تاريخي نحوهم. هذا الدور تجاوز مجرد المظلة الروحية والصلوات والشعائر ليمتد إلي ربطهم بالوطن الأم مصر والحفاظ علي الهوية المصرية من أن تذوب في مجتمعات المهجر… ولعل من ثمار هذا الدور الملموس ما نعايشه حاليا من تجمعات أقباط المهجر وجمعياتهم ومنظماتهم علاوة علي حشد غفير من شباب أبناء الأسر القبطية في المهجر الذين يملأون الكنائس ويفرزون نماذج طيبة من كهنة كنائس المهجر.
ويبقي أخيرا ما لا يمكن إغفاله ونحن نؤرخ لحبرية البابا شنودة وهو دوره الوطني الرائع في دمج الكنيسة القبطية وشعبها في الوطن مصر وسياساته الحكيمة في احتواء المشاكل التي تعرض لها الأقباط عبر العقود الأربعة الماضية سواء كانت الاعتداءات التي اشتهرت باسم النزاعات الطائفية أو المضايقات المرتبطة بسياسات الفرز والتهميش… أمام كل هذه الهموم كان البابا شنودة دائما مصدر تهدئة واحتواء للمشاعر المتأججة ومرتكنا إلي رصيد العلاقات الأزلية بين مسلمي ومسيحيي مصر ومقيما لجسور الحوار والتفاهم مع سائر المسئولين للحيلولة دون انفلات الأوضاع خارج نطاق السيطرة… وكان ضمن الدور الوطني الذي تحلت به الكنيسة أيضا مواقف البابا العديدة في التفاعل والتعاطف مع قضايا الوطن والحرص علي ألا تنفصل الكنيسة أو الأقباط عن الإجماع الوطني, وليس أدل علي ذلك من مواقف الكنيسة من القضية الفلسطينية وتحرير القدس وربط زيارة الأقباط للأماكن المقدسة فيها بحل القضية برمتها وذهابه مع فضيلة شيخ الأزهر يدا في يد عند تحقق ذلك إيذانا بالسماح للأقباط في ذلك السياق.
نعم… قداسة البابا شنودة الثالث علامة فارقة في تاريخ الكنيسة القبطية… ترك نموذجا يحتذي… وسطر ملامح غير مسبوقة لمسئوليات البابا القادم من بعده.