شاء الرب أن يرحل عنا قداسة البابا شنودة الثالث لتتحرر روحه من متاعب الجسد وتنطلق إلي السماء…مصر كلها تألمت وعبرت عن حبها العميق لقداسته وتقديرها الجم لشخصيته وحكمته والرسالة الرعوية الوطنية التي اضطلع
شاء الرب أن يرحل عنا قداسة البابا شنودة الثالث لتتحرر روحه من متاعب الجسد وتنطلق إلي السماء…مصر كلها تألمت وعبرت عن حبها العميق لقداسته وتقديرها الجم لشخصيته وحكمته والرسالة الرعوية الوطنية التي اضطلع بها عبر سنوات حبريته التي تجاوزت الأربعين…لا…لم تكن مصر وحدها في ذلك بل ما أن خرج نبأ نياحته من المقر البابوي بالكاتدرائية المرقسية حتي تصدر نشرات الأنباء المحلية والعالمية وفجر موجات متلاحقة من ردود الأفعال في الدوائر المسيحية والإسلامية والسياسية والرئاسية حول العالم تعبر عن مشاعر الخسارة والتقدير الجم لشخص البابا ورغبتها في المشاركة في مراسم تشييع جثمانه إلي مثواه الأخير.
هكذا كان التقدير المحلي والعالمي لشخص قداسة البابا ودوره المصري والعربي والعالمي الذي حظي بكل الاحترام والحب,فماذا كان شأن هذا التقدير في محيط كنيسته وشعبه القبطي الذي يمثل أبناءه ورعيته؟….الحقيقة أن مشاعر الحزن والألم لرحيل البابا اجتاحت الأقباط في مصر وحول العالم ممتزجة بمشاعر القلق والتوجس علي الكنيسة وكيف تجتاز هذه المرحلة الدقيقة في تاريخها,ومن سيخلف البابا,وكيف سيتم اختياره,والمسئوليات الجسام التي تنتظره…كلها أسئلة معلقة تنتظر إجابات وتضاعف من مقدار الحزن والألم والخسارة لدي الكافة.
هذه المشاعر مفهومة ومبررة,لكن المشهدالذي عشناه في الواقع خلال الأيام التي تلت الرحيل لم يكن علي المستوي الذي يقتضيه جلال الموقف,وكانت سلوكيات الجموع تفتقر إلي الانضباط وتبتعد عن هامش الحزن النبيل والوقار والتكريم أمام هذا المصاب الجلل…في البداية أعلن المقر البابوي أنه تم إسجاء جثمان قداسة البابا الراحل جالسا علي كرسي مارمرقس الرسول في الكاتدرائية المرقسية لإتاحة الفرصة لشعبه ومحبيه في التوافد لإلقاء نظرة الوداع عليه…وعلي الفور جاءت الأنباء عن زحف الآلاف إلي المكان لإلقاء النظرة الأخيرة,وتصورت مشهدا مهيبا لطوابير طويلة منظمة تتحرك في صمت ووقار منذ بلوغها أسوار الكاتدرائية عبر فنائها وساحتها الخارجية ثم صعودا إلي داخل قاعة الكاتدرائية حتي المرور أمام الجثمان المسجي حيث يكون التمهل قليلا لإلقاء نظرة الوداع وتمتمة صلاة خاشعة قبل المضي خارجا بينما الصمت والخشوع يلفان المكان….قادتني قدماي لأذهب للكاتدرائية بعد أن دعيت لاجتماع مشترك بين المجمع المقدس والمجلس الملي العام في اليوم التالي مباشرة وكانت تغمرني رغبة الدخول إلي الكاتدرائية لإلقاء نظرة الوداع علي قداسة البابا,فماذا حدث؟…ما أن بلغت الطريق المؤدي إلي البوابة الخارجية حتي وجدت التكدس المروري البشع وبعد جهد ووقف سرت علي قدمي متجها إلي البوابة لأجدني أخوض وسط كتل بشرية متلاطمة محاولا بلوغ البوابة…وعندما اشتد التزاحم والتدافع وبلغ حدا مقلقا فكرت في التراجع والانسحاب إلا أنني اكتشفت استحالة ذلك,فقد صرت جزءا مسلوب الإرادة من كتلة بشرية تتحرك صوب البوابة للدخول لتواجه كتلة بشرية مماثلة تتحرك في الاتجاه المعاكس صوب البوابة للخروج.انتابني إحساس بالفزع مما قد يحدث وتذكرت مشاهد تدافع الجماهير في استادات الكرة عندما يؤدي الهرج والمرج إلي وقوع الضحايا إما ضغطا علي الأسوار أو سحقا تحت الأقدام…كل هذا وسط صيحات الرجال وصراخ السيدات وبكاء الأطفال!!
دخلت بمعجزة إلي المكان حيث حضرت الاجتماع المحدد ولدي انتهائه وفي طريقي للخروج تساءلت إن كان في مقدوري المرور علي الكاتدرائية لإلقاء نظرة الوداع علي قداسة البابا,فجاءت التحذيرات ممن حولي أن ذلك بات شبه مستحيل وسط الكتل البشرية والتزاحم والفوضي والصراخ والضوضاء,فتخليت عن تلك الرغبة واتجهت خارجا حيث مررت بمحنة تفوق محنة الدخول حتي وجدتني خارج الأسوار مبهوتا مما تعرضت له شاكرا علي اجتيازي الخروج دون إصابات!! ولا عجب بعد ذلك أن جاءت الأنباء تتحدث عن العديد من حالات الإغماء والإصابة علاوة علي ثلاث حالات وفيات,الأمر الذي أدي إلي صدور قرار بمنع الزيارة وإغلاق الكاتدرائية.
هذا المشهد الكئيب المؤلم الذي جرد رحيل قداسة البابا من أجواء الوقار والمهابة والتكريم وأضفي عليه الكثير من الفوضي والغوغائية,لم يفقه في انفلاته وإهانته لجلال المناسبة سوي ما حدث في ساحة دير الأنبا بيشوي يوم الجنازة لدي وصول موكب السيارات الحامل للنعش لدفنه في المقبرة المعدة لذلك…وبالرغم من سابق الإعلان عن السماح للجماهير بحضور صلوات الجنازة في ساحة الكاتدرائية بالعباسية-وهو ما كان علي قدر معقول من النظام والهدوء-والإعلان أيضا عن اقتصار حضور طقوس الدفن في دير الأنبا بيشوي علي أبناء الدير,إلا أن لسبب غير مفهوم تواجد الآلاف من المواطنين علي الدير,وكان المشهد في البداية مطمئنا والتزمت الجماهير بالوقوف خلف كردونات جنود الشرطة,لكن ما أن ظهر موكب النعش حتي انفجرت الجماهير منطلقة في حالة هستيرية من الفوضي والانفلات تضرب عرض الحائط بالنظام وتحاصر السيارة الحاملة لنعش قداسة البابا لتمنع وصول الرهبان إليها وتعطل خروج النعش إلي المقبرة أكثر من نصف ساعة سادها مشهد مؤسف يرقي إلي مرتبة الفضيحة ويسيطر عليه الغوغاء والمتشنجون وسط وابل من الصياح والصراخ إلي إن نجح الرهبان بشق الأنفس في الخوض وسط الكتل البشرية وحملوا النعش وشقوا طريقهم بصعوبة بالغة إلي داخل المدفن استمر السيناريو المأساوي لمقاومة الجماهير حتي تم وضع النعش في المدفن وتغطيته ووضع صليب من الورود البيضاء عليه…لكن بعد الصلاة القصيرة لم يسلم هذا الصليب من بطش الغوغاء الذين انطلقوا يقطفونه وردة تلو وردة ثم ورقة تلو ورقة حتي أجهزوا عليه تماما…ولا أجد أي تفسير لهذا المسلك إلا أن يكونوا راغبين في الاحتفاظ بجزء من الصليب للذكري,لكن للأسف الشديد كانت الذكري التي خلفوها وراءهم هي قمة الفوضي واختطاف جلال ووقار المناسبة.
إذا كان أحد منكم يري في كل ذلك تعبيرا عن الحزن دعوني أقول إنه حزن ضل طريقه…ياليتنا مانراجع أنفسنا لنعيد صياغة ثقافة الحزن لدينا…لن تكون ثقافة الحزن أبدا انفلات المشاعر والضوضاء والصراخ والهستيريا…هل نري اليوم الذي نعبر فيه عن حزننا بالرؤوس المنحنية والعيون الدامعة والصمت المهيب؟