ما يحدث في مصر الآن أكبر من التوقف أمامه من خلال حادث بعينه، فالدولة المصرية القوية تنهار ليس بفعل فاعل، ولكن لأن عمرها الافتراضي انتهى، مع ملاحظة أن الدولة التي أعنيها هي الدولة التي نشأت منذ ثورة يوليو 1952،أعني أنه منذ ذلك التاريخ صارت الدولة والنظام أشبه بتوأم ملتصق، ومنذ 28 يناير 2011 فإن السلطات الثلاث للدولة انكشفت وتعرت.
السلطة التنفيذية: فشلت في ظل وزارات نظيف، شفيق، شرف، الجنزوري لم تستطع تلبية الحد الأدنى للمواطنين سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأمنية وعلى سبيل المثال فمنذ منتصف أبريل 2011 (العصيان القنائي على تعيين محافظ قبطي) وحتى 5 فبراير 2012 (قطع أهالي ديروط للسكة الحديد بسبب أزمة أنابيب البوتجاز) تم قطع الطرق البرية أو السكك الحديدية 384 مرة، كما شهدت مصر في هذه الفترة 184 حادث خطف معلن مقابل فدية، كما بلغت الاعتداءات على قوات الأمن وأفراد القوات المسلحة في سيناء وحدها 181 إعتداء معلن من 28 يوليو 2011 (الاعتداء على قسم ثان العريش) حتى 2 فبراير (خطف السائحتين الأمريكيتين)، ناهيك عن تفجير خط الغاز الواصل للاردن وإسرائيل 13 مرة، ومن إعلان جماعات تكفيرية لإمارة إسلامية في سيناء إلى إعلان الولاء لأيمن الظواهري وتنظيم القاعدة 27 يناير 2012.
في كل هذه الحوادث والتي يضاف إليها أحداث الفتن الطائفية لم تقدم قضية حقيقية للقضاء واكتفينا بالحديث عن المؤامرة والطرف الثالث، ومن 25 يناير 2011 وحتى 6 فبراير 2012 سقط أكثر من سبعة ألاف ما بين شهيد وجريح ولم نتمكن حتى الآن في ظل وزراء الداخلية المتعاقبين وجدي، العيسوي، إبراهيم من التأكد من أي شيء، يضاف إلى ذلك كله أكثر من عشرة ألاف تمت محاكمتهم عسكرياً دون سند قانوني.
السلطة التشريعية: تنقل لنا الجلسات المعلنة لمجلس الشعب (12 جلسة) العجب العجاب، مع احترامي للنواب الأفاضل فإن 95% منهم يحتاجون إلى إعادة تأهيل سياسي وقانوني لمعرفة الدور الحقيقي للنائب، لأن معظم تصرفاتهم لا تليق بإتحاد طلاب مدرسة ثانوية بدءاً من رفع الآذان في الجلسة وصولاً لمبيت بعض النواب أمام المجلس مروراً بعدم انضباط الأغلبية، وتديين كل شيء في سذاجة مفرطة، واستخدام التخوين والتكفير كما لو كانا من فروض اللائحة، كل تلك الجلسات كانت جعجعة بلا طحن.
السلطة القضائية: تدور معركة حامية الوطيس بين السلطتين التشريعية والقضائية، فرئيس نادي القضاة المستشار أحمد الزند قال في مؤتمر صحفي الإثنين 6 فبراير 2012: “أي قضاء تريدون تطهيره؟”، بل وصف الزند من ينادي بإقالة النائب العام بأنهم “سفلة”!! وأضاف: “طهروا أنفسكم وألسنتكم وأتركونا في حالنا، فالله الذي اصطفانا لتحقيق العدالة”.. لا نعلم هل الله هو الذي اختار السلطة التشريعية أو القضائية أم ابتلانا بكلاهما؟ ومن جهة أخرى شنت اللجنة التشريعية بمجلس الشعب هجوماً على المستشار أحمد الزند، واعتبر رئيس اللجنة المستشار محمود الخضيري كلام الزند تجاوزاً لا يليق، وتعهد الخضيري بالرد على الزند عبر تعديل قانون السلطة القضائية بشكل يمنع إطلاق يد رئيس الجمهورية في تعيين وعزل النائب العام. والمجلس العسكري الموقر حالته لا تسر عدو ولا حبيب، منذ زمن بعيد وضع العسكري نفسه في مواجهة الثوار، وبادر أعضاء منه وخبراء تابعين له بترويج اتهامات لا تليق بشرف العسكرية المصرية لحركات ثورية دون أي دليل، إضافة لعدم قدرته على تنفيذ وعوده المتكررة والمتشابهة مما جعل استمرار وجوده في السلطة ليس خطراً على مصر وشعبها فحسب، بل على سمعة ومكتسبات العسكرية المصرية المجيدة.
انتهى العقد الاجتماعي الذي ساد منذ يوليو 1952، وأصبحت مصر للمرة الأولى في تاريخها في حالة تناقض بين الدولة والثورة، فالسلطات الثلاثة للدولة انتهت صلاحياتها، بينما يصر المتنفذين فيها على السير بالطرق القديمة عكس اتجاه الثورة، دون إدراك حقيقي لما تحدثه الثورات من قطيعة معرفية ما بين القديم والجديد، فعلى سبيل المثال يضم مجلس الشعب الحالي 60 نائباً سبق اعتقاله من قبل وزارات الداخلية المتعاقبة، وبعضهم تحمل تعذيباً بشعاً ما تزال أثاره على أجسادهم، ومن يراجع جلسات البرلمان أثناء مساءلة وزير الداخلية محمد إبراهيم الأسبوع الماضي سيجد هؤلاء هم أكثر المدافعين عن وزارة الداخلية ضد الثوار. وبعض هؤلاء النواب الأفاضل سبق لهم رفع السلاح في مواجهة الدولة، وأيديهم لم تجف من عليها دماء الأبرياء بعد، ونراهم الآن ينعتون الثوار بالبلطجية، ويتباكون على بقرتهم المقدسة وزارة الداخلية! وعلى الجانب الآخر من ضفة نهر الوطن وبدلاً من السعي لإعادة بناء الدولة الجديدة نجد ثواراً يتحولون إلى رد فعل في نزعة استشهادية غالية الثمن، فبدلا من التركيز في التحضير والتنظيم للعصيان المدني العام، يتم تبديد القوى على وزارة انتهى عمرها الافتراضي منذ زمن بعيد.
ترى ماذا تبقى؟ هل ننتظر الحرب الأهلية؟ للأسف نحن نعيشها متقطعة من شارع لآخر وبين فئات وأخرى. أم ننتظر التدخل الخارجي؟ بفضل رعونة بعض المسئولين في ذلك البلد والذين لا يستحقون ما سنحت لهم به الظروف في غفلة من الزمن.
إ س