ليس في الإمكان أن نثبت سجلا بأسماء الرهبان من الرجال والنساء الذين سلكوا هذا الطريق, فقد بلغوا الملايين حتي لقد قال الرحالة والمؤرخون ليست السماء
ليس في الإمكان أن نثبت سجلا بأسماء الرهبان من الرجال والنساء الذين سلكوا هذا الطريق, فقد بلغوا الملايين حتي لقد قال الرحالة والمؤرخون ليست السماء غنية بنجومها غني برية مصر برهبانها ممن كانوا يعيشون متفرقين أو جماعات. فلا أقل من أن نذكر لك بعضا من أئمتهم, وكبار شيوخهم الذين قادوا الملايين منهم في هذا الطريق الملائكي, وهم الذين يسمونهم بآباء الإسكيم والإسكيم هو الشكل الرهباني الخاص الذي لا يرتديه إلا كبار النساك المجاهدين.
الأنبا بولا السائح:
قيل إنه أول النساك المتوحدين في صحراء مصر الشرقية, وكان من طيبة (وهي الأقصر) في صعيد مصر, دخل مدارس الفلاسفة وتعلم اللغتين القبطية واليونانية, ومات والداه عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره فنازعه زوج شقيقته في المال والعقار الذي تركه والداه.
وقيل إنه في أثناء هذا النزاع خرج إلي الطريق فرأي ميتا يشيعه الناس إلي مقره الأخير, فتأمل في معني الحياة, وسأل أحد الناس وهو متأثر وكأنه يعظ نفسه هل حمل هذا الميت إلي قبره مالا أو عقارا؟ فأجابة محدثه ومن من الناس يحمل إلي القبر معه شيئا؟ فسمع بولا هذا الجواب, وكأنه صوت من السماء, وفرح لأنه وجد فيه حلا للنزاع القائم بينه وبين زوج شقيقته ومضي للتو, بعد أن ترك كل شئ, ليختلي في مكان منعزل في الصحراء الشرقية, ووجد مغارة بالقرب من عين ماء ونخلة. فسكن المغارة مصليا وكان يستقي من عين الماء ويأكل بلحا من ثمر النخلة حتي بلغ من العمر ثلاثا وأربعين سنة.
وقيل إن الأنبا بولا كان يعتزم في مبدأ الأمر أن يعود إلي العالم بعد فترة من الزمان, ولكنه بعد أن ذاق لذات الحياة الروحية ونعيم الوحدة والسكون والعشرة المقدسة مع الله عدل عن فكره, وآثر البقاء في الصحراء بل زاد علي ذلك بأن دخل البرية الجوانية, وقد قال هو نفسه إن الظروف هيأت لي طريق الفضيلة.
إن ذلك القديس بولا أخفي نفسه ولكن الله شاء أن يشهره ليعلم الناس فضله. ذلك أن القديس أنطونيوس الملقب بأبي الرهبان كان قد اعتزل هو الآخر في البرية للتعبد, ولم يعلم أحدهما بالآخر. فلما أن بلغ الأنبا أنطونيوس التسعين من عمره أعلمه الرب بصوت من السماء أنه قد تقدمه في هذه البرية رجل فاضل, فاشتاق القديس أنطونيوس من كل قلبه إلي رؤية الأنبا بولا, فسافر يومين وليلة وهو لا يكف عن الصلاة طالبا من الله الإرشاد, وأخيرا رأي وحشا فتعقبه, ولما خيم الظلام بحث عن مكان قريب يأوي إليه, فصادف مغارة ولمح في داخلها نور سراج, فعلم أنه قد وجد ضالته المنشودة, وأخذ يقرع باب المغارة ولكن الأنبا بولا لم يفتح له, فصار يبكي ويقول إني واثق أنك تعلم من أنا, ومن أين جئت ولماذا أتيت؟ وسوف لا أبرح هذا المكان حتي أبصرك فهل يمكنك يا من قبلت الحيوانات أن تطردني أنا الإنسان؟ وبعد وقت فتح له القديس ثم تعانقا وسلم كل منهما علي الآخر باسمه كأنه يعرفه من زمن, ثم جلسا يتحدثان ويتسامران, وسأل القديس بولا عن أهل العالم عندما تركه أنطونيوس فأجابة بما يعرف.
وحلق غراب فوق رأسيهما ونزل وترك لهما رغيف خبز. فقال الأنبا بولا: مبارك الرب الإله الذي لا ينسي عبيده بل يتعهدهم بمراحمه. إن لي ستين سنة والغراب يأتيني في كل يوم بنصف رغيف خبز, وأما اليوم فقد أحضر لنا رغيفا كاملا وهذا من أجلك أنت أيضا.
وقال الأنبا بولا لزميله القديس: عرفت منذ زمن أنك تسكن البرية, وقد وعدني الله بأنك ستزورني وتواريني التراب, والآن قد جاء الوقت الذي أنطلق فيه من هذا العالم, وها أنا أطلب إليك أن تعود إلي ديرك وتوافيني بالرداء الذي دفعه إلي البابا أثناسيوس الرسولي لكي تواريني به. فبكي أنطونيوس متأثرا من هذا الوداع, ولكنه أطاع رغبة الشيخ القديس, وعاد إلي الدير بعد أن تبارك من القديس ورجع بالرداء المطلوب, وعندما اقترب من مغارة الأنبا بولا شاهد عددا كبيرا من الملائكة في الفضاء يرتلون وبينهم نفس البار الأنبا بولا, ولما دخل المغارة اعترته حيرة لأنه رأي جسد القديس جاثيا علي ركبتيه ويداه مبسوطتان ورأسه مرتفع وكأنه يصلي. فجثا بجانبه يصلي, ولما لم يسمعه يتأوه أو يتنهد حسب عادته تأمله فتحقق أن الجسد بلا روح. وألبسه الثوب, وقام ليواريه التراب, ولكنه تبين أنه في حاجة إلي أدوات للحفر. فأرسل الرب له أسدين أقبلا عليه, فرسم لهما علي الأرض حدود القبر فجعلا يحفران حتي أعدا له القبر فدفن فيه القديس وواراه التراب وصرف الأسدين, وعاد هو إلي ديره بعد أن أخذ معه ثوب الأنبا بولا المنسوج من أوراق النخيل, وصار يرتديه في الأعياد والمواسم المقدسة تبركا بالقديس, وكانت حياة الأنبا بولا نحو 113 سنة, امتدت بين سنة 228 وسنة 342م.
وقد قال أحد الآباء القديسين معقبا علي حياة هذا الراهب السائح وموبخا الأغنياء المترفين إني أسأل الأغنياء الذين لا يعرفون كمية ثرواتهم لزيادتها (لكثرتها) والذين يسكنون المنازل الفسيحة المزينة بكل أنواع الزينة والزخرفة: ما الذي أعوز هذا الشيخ الذي تعري من كل غني؟ ها أنتم تشربون في كؤوس من ذهب وفضة وهذا بولا كان يطفئ عطشه بكف يده. أنتم تلبسون البز والبرفير وهذا كان يرتدي ثوبا من النخيل. غير أن الأمر سوف لا يدوم علي هذا الحال… فها إن السماوات قد انفتحت لبولا المسكين, وأما أنتم فستهبطون مع جميع كنوزكم إلي الهاوية. وهو قبر في لحد ليقوم للمجد, وأما أنت فتدفنون في قبور من الرخام والمرمر لتحترقوا إلي الأبد.