انشغلت في عام الثورة المضطرب عن الكتابة عن رحيل عالم الدراسات الأبائية المرموق الدكتور رودلف مرقص يني، حتي حضرت الأسبوع الماضي صلاة الجناز علي شقيقه الناشط القبطي الكبير الدكتور رائف مرقص يني وتذكرت وقتها كيف أنني قصرت في تقديم الشخصيتين المحترمتين للقارئ العربي. ولما كانت مناسبة الرحيل للدكتور رائف مازالت ساخنة فكان لا بد من تقديمهما معا حتي ولو كانت مساحة العمود صغيرة جدا حتي للإيفاء بالعناوين الرئيسية لحياتهما المملوءة بالنجاح والغيرة المقدسة علي كنيستهم القبطية وشعبهم القبطي.
ولا يمكن فصل العمل الرسالي الذي حمله كل منهما علي كاهله بحب وفرح ونشاط دائب إلا بالعودة إلي والدهما المربي والواعظ الشهير مرقص يني الميري أستاذ نظير جيد قداسة البابا لاحقا حفظه الله, فعندما يشب الأبناء في بيت يقدس ويقدر العمل العام الرسالي ويسعد بالتضحية من أجله تكون المهمة محببة للأبناء فيما بعد, وهذا بالفعل ما غرسه واعظنا المعروف مرقص يني في أبنائه.وعندما يكون هناك نضوج وفهم للمسيحية ومبادئها الصحيحة تتوزع الرسالة علي الأبناء حسب ثمار الروح بين الدفاع عن الكنيسة وتراثها وطقوسها والدفاع عن حقوق الأقباط المضطهدين, وكل من العملين يكمل بعضهما البعض.
تخصص الدكتور رودلف يني بالإضافة إلي طب الأمراض الباطنية في الدراسات الأبائية بشكل رفيع, وكان من الرعيل الأول من المهاجرين الذين قدموا الكنيسة القبطية وتراثها إلي الأمريكيين منذ هجرته عام .1968 وأسس جمعية الدراسات الكنسية القبطية في عام 1980 والتي صدر عنها مجلتان الأولي بالإنجليزية بعنوان## كوبتك تشيرش ريفيو## وصدرت عام 1980 حتي عام 2009, وعندما اشتد عليه المرض نقل رئاسة تحريرها إلي الاب الدكتور القمص أثناسيوس فرج بولاية نيوجيرسي الذي يشرف علي تحريرها حتي الآن, وتصدر بشكل شهري محتويه علي العديد من الدراسات عن تاريخ الكنيسة وتراثها وطقوسها. أما المجلة الأخري فكانت تصدر بالعربية شهريا, حيث صدر العدد الأول منها عام 1982 واستمرت في الصدور حتي عام .2005 وللدكتور رودلف مرقص يني ثلاثة مجلدات عن تاريخ وتقاليد الكنيسة القبطية,بالإضافة إلي خمسين ورقة بحثية عن الكتاب المقدس- العلامة أوريجانيوس- الخلاص في المسيحية- الأنبا انطونيوس ابو الرهبنة- القديس القوي الأنبا موسي الأسود.ميزة هذه الدراسات أنها صدرت بالإنجليزية موجهة بالأساس للقارئ الغربي الذي يريد التعرف علي تراث وتاريخ كنيستنا,بالإضافة طبعا إلي عدد كبير جدا من المحاضرات قام بها الراحل الكريم عن كنيستنا في جميع أنحاء الولايات المتحدة وخارجها.
أما الدكتور رائف مرقص يني فقد تخصص في طب الأسنان كممارس وأستاذ في إحدي جامعات بنسلفانيا, ومع نجاحه المهني المرموق لم ينس قضيته ورسالته حيث أسس عام 1972 مع الدكتور شوقي كراس الهيئة القبطية الأمريكية,وأستمر لأربعة عقود مدافعا قويا وعاقلا ومحترما عن قضية حقوق الأقباط في دهاليز الكونجرس والأمم المتحدة وكافة المحافل لتقديم معاناة شعبه إلي العالم, ولقد حضرت معه العديد من هذه الفاعليات حيث كان يصطحبني معه في سيارته من نيوجيرسي إلي واشنطن عندما كنت اقيم هناك, وطبعا كتب الراحل الكريم عددا كبيرا جدا من المقالات عن القضية القبطية طوال هذه العقود الأربعة. وبالإضافة إلي دفاعه عن قضية الأقباط شارك أيضا كمؤسس وعضو مجلس إدارة كنيسة مار جرجس والأنبا شنودة رئيس المتوحدين بجيرسي سيتي عام 1973, وعندما انتقل إلي جنوب نيوجيرسي ساهم أيضا في إنشاء كنيسة السيدة العذراء بإيست برونزويك عام 1977 وكان عضوا في مجلس إدارتها.
علاوة علي هذا يحمد للدكتور رائف أنه عالج مجانا المئات من الحالات من المهاجرين الجدد في عيادته لطب الأسنان بمدينة برنستون بالقرب من جامعة برنستون الشهيرة.
ونحن نتحدث عن هذه العائلة الكريمة لا يفوتني الحديث عن فترة احتجاز قداسة البابا شنودة في دير الأنبا بيشوي, حيث كتب الراحل رودلف يني العديد من الدراسات الموثقة ابائيا والتي توضح عدم قانونية اللجنة الخماسية كنسيا مدافعا عن موقع البابا كرئيس رؤساء الأساقفة وراعي الرعاة في الكنيسة, في حين أن رائف يني جال في كل مكان هو والمرحوم شوقي كراس من أجل حث المجتمع الدولي لدعم الإفراج عن قداسة البابا وكانوا وراء إدراج منظمة العفو الدولية لقداسته كسجين ضمير, وهذا يعكس التكامل أيضا بين العمل الكنسي والعمل الحقوقي.
اتمني أن يتاح لقرائنا في مصر الإطلاع علي التراث الكبير الذي تركه رواد الرعيل الأول في المهجر, ويكفي أن قراء العربية لم تتح لهم فرصة قراءة الموسوعة القبطية الكبيرة التي كتبها أكثر من 200 عالم في الدراسات القبطية حول العالم وأشرف عليها المؤرخ القبطي العالمي الراحل الدكتور عزيز سوريال عطية, ولا هذه الدراسات الهامة التي قام بها الدكتور رودلف.أما من ناحية مجلة الرسالة فقد خصني الدكتور رائف بجميع اعدادها منذ صدورها وأتمني أن يأتي وقت لجمع أهم ما فيها في مجلد لقرائنا في مصر.
وداعا احباءنا د. رودلف و د. رائف إلي أحضان القديسين…إلي المساكن العلوية…إلي مواضع النياح والراحة… نستودع روحيكما الطاهرتين بين يدي خالقنا العظيم وتبقي لنا السير العطرة,لأن ذكري الصديق تدوم إلي الأبد.