الدكتور محمد حلمي مراد وزير التربية والتعليم في أواخر الستينيات كان عقلية استثنائية ومعجزة قلما يجود بها الزمان.
تعاقب بعده العديد من الوزراء علي امتداد أكثر من أربعة عقود, والعملية التعليمية في تدهور مستمر, والملايين تصرف علي المؤتمرات والدورات التدريبية الوهمية والنتيجة صفر, شأنها في ذلك شأن جميع الوزارات التي عصفت بمقدرات هذا الوطن ودفعت بالبلاد إلي حافة الهاوية في ظل تصريحات ووعود كاذبة وأحلام زائفة.
أقول ذلك بمناسبة تصريحات د. كمال الجنزوري رئيس مجلس الوزراء الذي طلب عند توليه المسئولية منحه ثلاثة شهور يحاسب بعدها علي الإنجازات.. ها هي المهلة تقترب من النهاية وقد فشل جميع وزرائه في أداء مهامهم بدءا من غراب الذي أقسم منذ أكثر من شهر علي حل مشكلة أنابيب البوتاجاز في خلال أسبوعين ومازالت الكارثة مدوية, مرورا بوزير التموين الذي فشل في حل مشكلة طوابير العيش رغم وعده, ووزير التربية والتعليم الذي اعتكف بمكتبه بعد رحلة عذاب مع التدريس والطباشيرة, انتهاء بوزير الداخلية الحائر وحده في الحملات الأمنية بينما القيادات الأمنية في المحافظات حبيسة المكاتب وكأنها تترقب لحظة سقوطه في ظل حالة الانفلات الأمني التي تشهدها محافظات مصر يوميا!
تولي د. حلمي مراد وزير التربية والتعليم منصبه لمدة ستة شهور في عهد عبدالناصر.. أتذكر أنه لم يجلس في مكتبه يوما واحدا, كان يقيم أسبوعين في كل منطقة تعليمية يستثمرها في جولات ميدانية للمدارس, ومعايشة كاملة لهموم المعلمين والطلاب.. كان يلتقي بالكبار والصغار ويستمع ويتخذ القرارات الفورية.. كان يسأل كل موظف ومعلم عن موطنه الأصلي ويأمر بنقله إليه فورا علي أن يتسلم عمله الجديد في اليوم التالي حرصا علي استقراره, قلت له يومها: هذه القرارات قد تؤدي إلي عجز وزيادة في العمالة في المناطق التعليمية, وبالتالي ارتباك العمل.. رد قائلا: أبدا إنها ستحقق التوازن والاستقرار لجميع العاملين في أنحاء الجمهورية, وتحققت رؤيته في خلال ثلاثة شهور.
من خلال زياراته المكثفة للمناطق التعليمية ودراسة مشاكلها ميدانيا ألغي كثيرا من الأجهزة الإدارية التي تعاني من الازدواج والتعددية.. ودفع بالقيادات التعليمية المنفية في وظائف إدارية مهمشة إلي الميدان للاستفادة من خبراتهم وطاقاتهم.
كان يزور المدارس متخفيا لمعايشة هموم المعلمين والطلبة ونسف الروتين والبيروقراطية.
عقد مؤتمرا في مركز تدريب منشية البكري لمناقشة قضايا المعلمين والاستماع لمشاكلهم, لاحظ أن جيوشا من المعلمين الشيوعيين مستبعدون عن التدريس, أمر فورا بإعادتهم إلي مدارسهم واشترط عليهم أداء رسالتهم بأمانة بعيدا عن بث الأفكار الشيوعية في عقول أبنائهم!
أمر بصرف جميع الكتب المدرسية قبل الدراسة بأسبوعين لجميع الطلبة والطالبات بصرف النظر عن سداد المصروفات المدرسية.
استحدث تسمية الموجه بدلا من المفتش ارتقاء بها مؤكدا انتهاء عصر التفتيش الذي كان مواكبا للاحتلال البريطاني.. كانت المحاسبة للقيادات التعليمية شهرية وفي ظل الإنجازات والسلبيات..
دفع بجميع القيادات التعليمية إلي الجولات الميدانية اليومية للمتابعة والدراسة والتوجيه والحل.. ضخ الدم في شرايين الوزارة ومدارسها وأعاد إليها حيويتها وشبابها, أعلنت الطوارئ في جميع المدارس استعدادا للزيارات المفاجئة!
هو الوزير الوحيد الذي قدم استقالة مسببة لعبدالناصر بعد ستة شهور من توليه الوزارة!
مع انتهاء الشهر الثالث لوزارة د. الجنزوري تنتهي صلاحيتها.
رحم الله د. حلمي مراد الذي انطفأ معه وهج النهضة أكثر من أربعة عقود!