من بين أعيادنا السيدية الصغري السبعة, اليوم الثالث عشر من شهر طوبة القبطي, وفيه تذكار معجزة تحويل الماء إلي خمر في عرس قانا الجليل, وتعد هذه
من بين أعيادنا السيدية الصغري السبعة, اليوم الثالث عشر من شهر طوبة القبطي, وفيه تذكار معجزة تحويل الماء إلي خمر في عرس قانا الجليل, وتعد هذه المعجزة أولي المعجزات التي صنعها رب المجد يسوع المسيح في بدء خدمته الجهرية. يقول الإنجيل المقدس وقد كانت هذه هي المعجزة الأولي التي صنعها يسوع في قانا الجليل, وأظهر مجده, فآمن به تلاميذه. (يوحنا2:11).
وإذن فهذه المعجزة تعد الأولي في قانا الجليل وقد صنعها أمام تلاميذه فآمنوا به إذ رأوا مجده أي جلاله وسلطانه وقدرته.
ولكنها بالطبع ليست هي المعجزة الأولي منذ نزوله علي الأرض, فلقد سبقتها معجزات كثيرة. فإن الحمل به في بطن عذراء لم تعرف رجلا, معجزة, وولادته منها مع احتفاظها ببكارتها, معجزة, ومجئ المجوس إليه من أرض بعيدة ليسجدوا له, معجزة, ومجيئه إلي مصر ونجاته من سيف هيرودس, معجزة, وتحطم الأوثان في مصر أمام جلاله (إشعياء 19:1) معجزة بل معجزات, وإقامته في مصر قد صاحبها الكثير من المعجزات بما لا يعيه الحصر, ولابد أن العذراء مريم ويوسف النجار وأهل الناصرة التي تربي فيها (متي2:23), (لوقا4:16) قد رأوا في حياته بينهم عشرات المعجزات..
وقد رأت الكنيسة في معجزة تحويل الماء إلي خمر في عرس قانا الجليل عدة حقائق مهمة:
الحقيقة الأولي: هي قدرة المسيح اللاهوتية, وسلطانه علي المادة بتحويلها من صورة إلي أخري, من ماء إلي خمر حقيقي, وهذه القدرة ذاتية لم يستمدها من كائن خارج عن ذاته. فهو لم يتذرع بالصلاة والطلب كما يفعل الأنبياء والرسل, إذ يطلبون من الله فيستجيب الله لصلواتهم توكيدا لقدرته تعالي, وإثباتا لإرساليتهم من الله. أما المسيح فعندما حول الماء إلي خمر لم يرفع صلاة, وإنما أصدر أمرا إلي الخادمين املأوا القدور ماء, فملأوها إلي أعلاها. فقال لهم: اغترفوا الآن, وقدموا إلي رئيس الوليمة, فقدموا. فلما ذاق رئيس الوليمة الماء الذي تحول إلي خمر,… دعا… العريس (يوحنا2:7-9).
ولقد انبهر رئيس الوليمة من المعجزة, وشهد بأن هذه الخمر هي أجود أنواع الخمور, وقال للعريس كل إنسان يقدم للمدعوين الخمر الجيدة أولا, حتي إذا سكروا قدم لهم ما هو دونها جودة. أما أنت فأبقيت الجيدة إلي الآن (يوحنا2:10, 11) كما انذهل للمعجزة المدعوون, ومن بينهم تلاميذ المسيح, فآمن به تلاميذه (2:11).
تلك (القوة) الذاتية التي منها ينبع سلطان المسيح الإلهي علي صنع المعجزات, قد عبر عنهاله المجد صراحة عندما لمسته امرأة كانت مصابة بنزف دم منذ اثني عشر عاما, وقد عانت كثيرا من أطباء كثيرين وأنفقت كل ما تملك (علي الأطباء), فلم تجد أي فائدة, وإنما بالأحري ازداد حالها سوءا, فلما سمعت عن يسوع جاءت من خلفه في الزحام (ولمست طرف ثوبه), لأنها قالت في نفسها: لو أنني لمست فقط رداءه لشفيت. فجف معين نزفها في الحال, وأحست في جسمها بأنها قد برئت من ذلك الداء, وعلي الفور علم يسوع في نفسه بالقوة التي خرجت منه. فأدار عينيه في الجمع, وقال: من لمس ثيابي؟. (فأنكر الجميع وقال بطرس والذين معه: يا معلم, إن الجمع يتزاحمون من حولك ويضغطون عليك, ثم تقول: من لمسني؟. فقال يسوع: إن ثمة من لمسني, لأنني عالم بالقوة التي خرجت مني. فلما رأت المرأة أن أمرها لم يكن خافيا عليه جاءت مرتعدة, وارتمت علي قدميه, ثم اعترفت أمام كل الشعب بالسبب الذي من أجله لمسته, وكيف أنها شفيت علي الفور. فقال لها: تشجعي يا ابنتي, إن إيمانك قد خلصك (مرقس 5:25-34), (لوقا 8:43-48), (متي 9:20-22).
الحقيقة الثانية: إن هذه المعجزة- تحويل الماء إلي خمر في عرس قانا الجليل- أجراها المسيح له المجد استجابة لطلب العذراء مريم أمه, وشفاعتها إليه في أهل العرس. وهذا برهان ضمني علي أن للعذراء مريم شفاعة ودالة عند ابنها, وأنها أثيرة لديه. ولقد كشف الرب يسوع هذه الحقيقة جليا عندما سألته العذراء الطاهرة بأن يصنع شيئا لينقذ أهل العرس مما هم فيه من حرج إذ نفدت الخمر من عندهم أو علي حد تعبيرها الموجز ليس لديهم خمر (يوحنا 2:3) فكان جوابه يدل علي أنه, وإن لم تكن له رغبة في أن يصنع معجزة لأنه لم يحن الوقت ليصنع فيه المعجزات, مع ذلك لم يرد لها طلبا, بل استجاب في الحال وصنع من أجلها المعجزة العظيمة الباهرة وذلك تكريما لها.
قال الإنجيل فقالها يسوع: ما شأني, يا سيدة, وما شأنك في هذا؟ إن ساعتي لم تأت بعد (يوحنا 2:4) ومعناه: ما الذي يهمك ويهمني من أمر الخمر؟ ولابد أن لهجة السيد المسيح في حديثه مع السيدة والدته كانت لهجة رقيقة, فيها أدب جم واحترام جزيل (لوقا 2:51) علي الرغم مما بدا لبعض الناس ممن لا يعرفون لهجة الحديث بالسريانية لغة فلسطين وأدب الحديث إلي كرائم السيدات. فالعبارة فيها توقير واحترام تسانده لهجة الحديث ذاتها وكيفية التعبير والنطق مع الإيمان والإشارة ونظرات العيون في التخاطب (وقد قالت لي سيدة لبنانية غير مسيحية تقيم في مصر: إن كلمة (امرأة) عندنا في لبنان كلمة حلوة لها رنين الاحترام إذا وجهت إلي جنس النساء, فهي بمثابة يا سيدة. وإنني أتعجب كثيرا عندما أسمع ذات الكلمة في مصر بلهجة مختلفة تماما عما عندنا في لبنان).
والدليل علي أن القديسة مريم قد فهمت من عبارة المسيح له المجد أنه استجاب لطلبها, أنها ذهبت علي الفور إلي الخادمين في وليمة العرس, وقالت لهم: ما يأمركم به فافعلوه (يوحنا 2:5), وهو خير جواب علي من يظن خطأ أن المسيح رفض تدخل العذراء أمه أو أنه أجابها بجفاء.
ولذلك تعد هذه المعجزة دليلا إيجابيا علي شفاعة القديسين بعامة, وشفاعة العذراء مريم بخاصة, ومما له دلالة هنا أن تكون أول معجزة صنعها المسيح في بدء خدمته الجهرية, كانت بناء علي طلب العذراء مريم, واستجابة لشفاعتها في أهل العرس.
الحقيقة الثالثة: إن المسيح له المجد إذ حول الماء عن طبعه, وصيره خمرا حقيقيا فقد برهن مسبقا علي قدرة لاهوته في سر القربان المقدس: ففي ليلة آلامه (خميس العهد الجديد) أخذ يسوع خبزا وباركه وقسمه وناول تلاميذه, وقال: خذوا كلوا فإن هذا هو جسدي. ثم أخذ كأسا وشكر, وناولهم قائلا: اشربوا منها كلكم. فإن هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يسفك عن كثيرين لمغفرة خطاياهم (متي 26:26-28), (مرقس 14:22-24), (لوقا 22:19, 20).
ولقد رأي آباء الكنيسة في معجزة تحويل الماء إلي خمر, إشارة مسبقة إلي سر القربان المقدس, ليس فقط من جهة قدرة المسيح وسلطان لاهوته علي تحويل المادة من صورة إلي أخري, بل أيضا من حيث إن الخمر ترمز إلي الصحة والقوة… فلئن كان الماء للتنظيف والتطهير ولا غني عنه لنظافة البدن وسلامته, لكن الخمر تعطي الصحة والحيوية والقوة (مزمور103:15), (التكوين27:25), وهي غذاء يبني صحة الجسم (التكوين 27:28, 37), (إشعياء 36:17), (عزرا 6:9), (التثنية 7:13) وتتحول الخمر إلي دم, (القضاة 9:13), (الجامعة 10:19) والدم قوام الإنسان, ولذلك يقولون في الأمثال إن الإنسان من لحم ودم (غلاطية 1:16), (متي 16:17), (أفسس 6:12).
لقد كان شرب الخمر جزءا من الطقس الديني في العهد القديم, فكانوا يشربون أثناء تناول الفصح أربع كؤوس من الخمر (كأس المرارة, وكأس الفرح, وكأس البركة, وكأس التهليل) ثم يرتلون بتسابيح ومزامير البهجة والخلاص (مرقس 14:26), (متي 26:30), وجاء المسيح في العهد الجديد فأخذ أيضا كأسا وباركها وناول تلاميذه منها وقال لهم: اشربوا منها كلكم فإن هذا هو دمي للعهد الجديد.
ولقد أبان له المجد, في أكثر من مناسبة, أهمية هذا الشرب السري من دمه. فقد قال: أنا الكرمة الحقيقية… اثبتوا في كما أن أيضا فيكم. فكما أن الغصن لا يمكنه أن يأتي بثمر من ذاته وحده إن لم يثبت في الكرمة, هكذا أنتم لا يمكنكم أن تأتوا بثمر إن لم تثبتوا في. أنا الكرمة, وأنتم الأغصان. فالذي يثبت في وأنا فيه يأتي بثمر كثير, لأنكم بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئا وأما الذي لا يثبت في فيطرح خارجا كالغصن, فيجف, فيجمعونه ويطرحونه في النار, فيحترق… (يوحنا 15:1-6). ثم يعود فيقول الحق الحق أقول لكم: مالم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه, فلن تكون لكم حياة في أنفسكم… من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية… من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا أيضا أقيم فيه (يوحنا 6:53-56).
من هذه المشابهة بين المسيح والكرمة, وبين المؤمنين بالمسيح وأغصان الكرمة, تتضح حاجة المؤمنين إلي أن يغتذوا بدم المسيح سريا, فيكون لهم الثبات فيه وبالتالي الحياة الأبدية, فلا حياة للغصن من دون الكرمة, إن منها يستمد غذاءه وبالتالي استمراره في الحياة وثباته فيها, ومن غير ذلك يصيبهم الذبول فالجفاف فالموت فالهلاك الأبدي.
ر