ما أعظم الشرف الذي أضفاه الله علي جنسنا بتجسده المنيف لأننا نحن صرنا متحدين به في المسيح, وصرنا نحن في المسيح لأنه أخذ طبيعتنا.بل وصارت طبيعتنا
ما أعظم الشرف الذي أضفاه الله علي جنسنا بتجسده المنيف لأننا نحن صرنا متحدين به في المسيح, وصرنا نحن في المسيح لأنه أخذ طبيعتنا.
بل وصارت طبيعتنا نحن فيه, ومعه, ثم حملها معه إلي السماء, وصعد بها إلي الأعالي, وأدخلها إلي المجد.
فما أرفع الإنسان بعمل المسيح, وما أمجده, وما أشرفه لأن الإله أخذ طبيعته.
عظيمة هي ديانتنا المسيحية بهذا التعليم المجيد:
الله قبل صورة الإنسان, فكان قبوله هذه الصورة أعظم حب يمكن أن يطمح إليه الإنسان, ويطمع فيه أو يمكن أن يحلم به. الله الكلمة المنقذ والمخلص, والفادي صاحب المجد والكرامة, قبل صورة الإنسان. نزل الإله إلي الإنسان تفضلا, وتكرما, والإنسان لم يكن مستحقا, وهنا عظمة الحب. ما فضلك أنت إن أحسنت إلي من أحسن إليك؟ إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم (متي5:46, 47) إنما الحب الحقيقي يظهر إذا كان تنازلا من الأعلي إلي الأدني, وإذا لم يكن له مقابل بل يكون من قبيل الفضل والإحسان. هكذا صنع المسيح بنا.
هل كانت البشرية مستحقة لظهوره يوم أن جاء المسيح إلينا؟!!
كلا.. إنما كانت البشرية تستصرخ هذا المجئ وتستحقه لا بمعني أنها جديرة به, لكن بمعني أنها في حاجة إليه.
البشرية انتظرت المخلص والمنقذ وعبرت عن ذلك بواسطة فلاسفتها وأنبيائها:
قال سقراط أحد كبار الفلاسفة في العصور القديمة: لا سبيل إلي معرفة الحقيقة إلا إذا جاء رب الحقيقة نفسه وأعلن ذاته للبشر.
قال هذا بعد أن تعب سقراط من المناقشات والجدل ومن المساجلات الكلامية عن الحق والحقيقة, بين المفكرين البارزين من بني الإنسان. فلما تناقش الناس, وتعارضوا وانقسموا, واختلفوا, قال سقراط لا سبيل إلي حل هذا الخلاف بين البشر إلا إذا تفضل رب الحقيقة وأعلنها بذاته للبشر.
فسقراط الوثني كان بمثابة نبي في العالم الوثني, أنبأ بحاجة البشرية إلي هذا المخلص, وإلي هذا الحق الذي يكشف ذاته للبشر.
وإلي جانب الأمم الوثنية كانت هناك أمة بني إسرائيل التي تخيرها الله في وقت ما لكي تكون عينة من عينات البشر يجري فيها وبها تدبير الخلاص. فقد عبر أنبياء العهد القديم عن حاجة بني الإنسان إلي المخلص وإلي الفادي, كلهم تحدثوا عن هذا المجئ, وتوقعوه, وحيوه وأنبأوا به فمنهم من قال: أراه ولكن ليس حاضرا, أبصره ولكن ليس قريبا, يبرز كوكب من يعقوب ويقوم صولجان من إسرائيل (العدد 24:17) ومنهم من قال: لخلاصك انتظرت يارب (التكوين 49:18) ومنهم من قال: ارجعوا إلي الحصن يا أسري الرجاء (زكريا9:11, 12) وقصد بذلك الجحيم الذي انطلقت إليه أرواح القديسين في العهد القديم وظلوا هناك محبوسين, لأنه لم يكن مباحا بعد للإنسان أن يقترب من الفردوس المغلق في وجه الإنسان.
إن حنة ابنة فنوئيل. وكانت أرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تبرح الهيكل حينما رأت المسيح طفلا علي يدي سمعان الشيخ, وسمعان يقول: الآن أطلق يا سيدي عبدك بسلام, وفقا لكلمتك فإن عيني قد أبصرتا خلاصك, الذي أعددته أمام كل الشعوب- جاءت وشكرت الرب وحدثت عنه كل من كان ينتظر فداء في أورشليم (لوقا2:28-38) وتشكره لأنه جاء الوقت الذي فيه تفقد الله شعبه وأشرق علي الجالسين في الظلمة نور, وظهر, وفي ظهوره فتح باب الرجاء أمام النفوس اليائسة. فبنو إسرائيل وأنبياؤهم جميعا, عبروا عن حاجة البشرية إلي هذا المخلص, وإلي هذا الفادي الذي بمجيئه يكون الخلاص والفداء للإنسان ورجوعه إلي الفردوس الذي كان مغلقا في وجهه.
فاليهود إذن وغير اليهود من الأمم ومن الوثنيين, هؤلاء وأولئك جميعا عبروا عن حاجة البشر إلي الخلاص, ومن أجل هذا جاء المسيح في الوقت الذي اشتدت فيه الحاجة إليه, وتحقق جميع الناس ذلك.
لذلك قال الكتاب: فلما تم الزمان, أرسل الله ابنه مولودا من امرأة, مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني (غلاطية4:4).
فمجئ المسيح برهان حبه لنا, ولطفه بنا, وعنايته واهتمامه بجنسنا. تفقدنا المشرق من العلاء (لوقا 1:78) جاءنا وعاش معنا, وعاش ظروفنا وأحوالنا, ولمس متاعبنا, لا لأنه كان جاهلا بطبيعتنا, ولا لأنه كان غير عارف بظروفنا وآلامنا, إنما لكي يشعرنا نحن بأنه أبونا وراعينا, وأنه مهتم بنا, لذلك جاء إلينا.
بمجئ المسيح تغيرت صورة الإله في نظر الإنسان:
لقد غير المسيح له المجد بمجيئه الصورة التي كان يعرفها الناس عن الإله. كان الإله في نظر اليونان والرومان إلها متعاليا مترفعا يسكن وراء الجبال ولا يحفل بالبشر, ولا يهتم بهم. ما علاقته بهم؟ هو في سموه وعلوه أعلي وأعظم وأشرف من أن يحفل بالإنسان…
أما في المسيح فقد تغيرت الصورة, فرأينا- في المسيح- الله الذي يحفل بالبشر. الله الذي يرعي الناس, ويهتم بهم…
الإله الذي علاقته بالإنسان علاقة الأب بابنه…
الإله الذي ينزل إلينا ليعيش معنا كأنه واحد منا.
المسيحية أثرت في غير المسيحيين أيضا:
في أحد المؤتمرات العالمية, وكان مؤتمرا للأديان الحية, أذكر كلمة قالها أمامنا واحد من غير المسيحيين, قال: من المسيحية تعلمنا شيئا جديدا, رأينا الله الذي يشارك الإنسان في الألم. هذه الصور غير موجودة في أي دين آخر لكنها موجودة في الديانة المسيحية وحدها, وقد انفردت ديانة المسيح بهذا الأمر, إنها تقدم لنا الله متألما مع البشر.
لقد تأثرت وأنا أسمع من رجل غير مسيحي هذا التعليق, إنه أدرك أن المسيحية ديانة تقدم لنا الله, لا إلها متعاليا مترفعا بعيدا عن الإنسان, لا يحفل به, ولا يهتم بأمره, إنما تقدمه علي أنه إله محب, إله أب. وأب, بكل معني الأبوة! لم يرض أن يحيا في غني عن الإنسان بل جعل مسرته في بني الإنسان بالناس المسرة (لوقا 2:14).
شكرا يارب… شكرا لك يارب إذ جعلت يا إلهي مسرتك في الناس. هذا معناه أنك تحب الناس… وتسعد بهم..
وبعد, كيف يمكن للإنسان أن يتنكر لهذا الحب؟!!
كيف عبر الإنسان عن حبه لله مخلصه وفاديه:
أيمكن للإنسان إلا أن يقابل الحب بحب نحن نحبه لأنه قد أحبنا هو أولا (1. يوحنا4:19).
نحبه لأنه هو أحبنا أولا… هو صاحب الفضل الأول, ونحن نرد له حبا بحب. هو صاحب الجميل ونحن نرد له بعض الجميل. من أجل هذا عبر الروحانيون من بني البشر, عن تأثرهم بهذا الحب, وعن تعلقهم به.
عبروا عنه بصلواتهم الحارة التي رفعوها عبر العصور, والتي تعبر وتنطق بتأثر الإنسان بفضل الله, وفضل محبته.
اجمعوا صلوات القديسين العميقة في هذه المئات من السنين, واقرأوها وتأملوها, تجدوا كيف عبر الإنسان عن حبه لله وأفصح له بأنه أسير له, وأنه مديون لمحبته له, غارق في هذا الدين, ولا يقدر أن يفي به.
ومن القديسين من رأي أن الصلوات لا تكفي, وأن الأصوام لا تكفي, وأن القرابين والعطايا وكل أنواع الضحايا لا تكفي, تعبيرا عن هذا الحب. لذلك تحركوا عمليا لكي ينقطعوا لخدمة هذا الرب, تعبيرا عن الحب… فاختارت مريم النصيب الصالح لتجلس عند قدميه, لا تعمل شيئا إلا أن تصغي, وأن تتأمل… وأن تحيا في عاطفة الحب… وتشبع منها… وتتغذي بها, وكل الذين علي مسيرة مريم ساروا, هؤلاء الذين وجدوا بقاءهم في الدنيا ومشاغلها يعوقهم عن هذه المناجاة الروحية الباطنية, فالبعض منهم خرج من الدنيا وتعجل الآخرة وأراد أن يحيا في العالم الآخر وهو في العالم الحاضر.
فمنهم من أراد أن يهرب بذهنه وبعقله, من الدنيا ومشاغلها, ويفر من ضجيجها وعجيجها, إلي الجبال وإلي الصحاري, وإلي شقوق الأرض, والمغاور والكهوف؟!! فمن كلفهم بذلك؟!! ومن أمرهم أن يمضوا إلي الجبال؟!! وأن يعيشوا في شقوق الأرض ومغاورها وكهوفها, يعانون قسوة الحياة وشظف العيش, ويمارسون النسك والحياة القاسية الجافة؟.
من كلفهم بذلك؟!! من ذا أمرهم به؟!! إنه الحب. هو الذي استثارهم وجذبهم وشدهم, وقد شعروا أن الإخلاص في الحب واجب مقابل يفرضه الوفاء, ذهبوا ليعبروا عن محبتهم من دون أن يطلب أحد منهم ذلك. خرجوا إلي الجبال, إلي شقوق الأرض, من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح, وأعطوا حياتهم للصلاة بلا انقطاع (تسالونيكي الأولي 5:17) حتي النوم! وهو أمر طبيعي, وكل إنسان في حاجة إليه, شعروا بأنهم يجب أن يقللوا منه ما أمكن لكي يقضوا مع المسيح أطول مدة ممكنة! حتي النوم وهو طبيعي! رأوا فيه عائقا عن هذه المناجاة التي يعبرون بها عن حبهم مقابل الحب الذي أحبهم المسيح به.
وكل تاريخ البشرية… وكل تاريخ المسيحيين, في هذين الألفين من السنين… في العشرين قرنا التي مضت… عبر فيها أتقياء المسيحيين, بمختلف الوسائل عن وفائهم لهذا الجميل.
فمنهم من صلي, ومنهم من كتب كتبا, ومنهم من وعظ وعلم, ومنهم من عبر عن حبه بفنون التصوير, والنحت, والموسيقي, وكلها وسائط تعبير عن التأثر, وعن الحب الذي في قلوبهم نحو المسيح, الذي أحبهم أولا.
وبقدر ما يكون الفنان متأثرا بعمق, بقدر ذلك ينجح في التعبير عن شعوره, ويستطيع أن ينقل نقلا صادقا وعميقا ما يشعر به, ولذلك يرتفع الفن في كل بلد من بلاد المسيحية, كلما كان في هذا البلد شعور أكثر بمحبة المسيح, وتأثر أكثر بمحبة المسيح التي غلبت والتي سيطرت علي قلب الإنسان, وملكت عليه, وأسرته, وجعلته أسيرا لها.
كل هذه مظاهر حبنا للمسيح. تعبيرا عن وفائنا للمسيح الذي أحبنا, والذي جاء من السماء من أجلنا.