كنت ضمن المقبوض عليهم علي ذمة القضية 100 لسنة 1977, بتهمة التحريض والتنظيم والاشتراك في انتفاضة يناير 1977, ومن سجن القلعة إلي القفص جنبا إلي جنب مع شباب وكهول وشيوخ, نساء ورجال, عمال وفلاحين, طلبة, رئيس الدائرة المستشار صلاح عبدالمجيد الذي استقال من القضاء فيما بعد وانضم لحزب التجمع, ترأس هيئة الدفاع شيخ من أفضل شيوخ مهنة المحاماة: النقيب الأستاذ مصطفي البرادعي كان يتكأ علي عصا, يغطي الروب الأسود جسده الهزيل, شعره الأبيض, بريق عينيه, كل تلك الهالة جعلته يبدو كما لو كان أحد قديسي العصور الوسطي, ساد الصمت القاعة, بدأ الرجل في الحديث حول حرية التظاهر وثقافة الاحتجاج كجزء لا يتجزأ من صيرورة الضمير الإنساني, وأضاف أن العدالة بدون روح القانون هي ضمير أخرس, شعرت أن للعدالة قدمين ولسان ينطق بالحق, في نهاية الجلسة أفرج عن جميع المتهمين.
بعد ثلاثة وثلاثين عاما من تلك الجلسة, قدم إلي ساحة مصر البرادعي الابن الدكتور محمد مصطفي البرادعي, ليدافع عن قضيتها العادلة, بدا لنا جميعا وكأنه يستخدم آليات غربية غريبة عنا, بجمع توقيعات يطالب بتغيير الدستور, ضد التوريث, إلخ, ورويدا رويدا بدأنا في فهم وتفهم ما يريده الدكتور البرادعي, يريد يطهر مجري النيل ليعود للفيضان مرة أخري,يريد أن تتدفق مياه النهر نحو الضمير المصري, يريد تغيير اجتماعيا وسياسيا وسلوكيا, لكي نصنع سويا نسقا ثقافيا وضميريا جديدا.
وقعت مع مئات الآلاف من الموقعين حتي تتغير مصر, مثلت هذه التوقيعات الراصقة التي دفعت النهر للفيضان نحو الحرية والتعبير, وصارت مصر ودفعت ما دفعت من دماء شهداء ومصابين, وسقط رأس النظام, وجاء المجلس العسكري وحاول إعادة إنتاج النظام الجديد من غير مبارك, وتحالف مع الفئات الاجتماعية والاقتصادية القديمة, وأطلقت الرأسمالية المصرية لحيتها, وتم تديين الاستغلال والتخلف, وارتدي الاستبداد حلة عسكرية ووضع علي رأسه عمامة شيخ, وحاولت أقدام العسكر الثقيلة أن توقف فيضان النهر من جديد, وأراد أصحاب اللحي والجلباب إسكات الضمير باسم المقدس!! وبعد ذلك هل كنتم تتوقعون أن يستمر البرادعي في لعبة الترشيحات الرئاسية؟!