كانت روما في منتصف شهر مايو عام1923 وعلي وجه التحديد في الفترة من12إلي 19 مايو محط أنظار نساء العالم.حيث كان انعقاد المؤتمر النسائي العام الذي شاركت فيه مصر للمرة الأولي بدعوة من أعضاء المؤتمر,فقوبلت الدعوة بالارتياح لأن النهضة النسائية في مصر كانت بدأت تأخذ شكلا جديا يسمح لها بتحقيق آمال المرأة المصرية التي تنشدها,واجتمع للبحث في هذه المسألة الحيوية لفيف من ذوات الرأي والمكانة برئاسة صاحبة العصمة السيدة هدي هانم شعراوي من أجل اتخاذ قرار خاص بشأن انتخاب الهيئة التي ستوفد إلي المؤتمر لتمثيل المرأة المصرية هناك فوقع اختيار اللجنة علي السيداتهدي هانم شعراوي,نبوية موسي,سيزا نبراوي ليكن هيئة ممثلة للمرأة المصرية في الخارج,كما انتخبت لجنة الاتحاد النسائي المصرية هيئة أخري دائمة بمصر لتستجمع كل الآراء الخاصة بالموضوع وتفحصها بدقة لكي تستخلص منها رأيا يصح مواجهة المؤتمر به بما يؤهل المرأة في مصر بأن تصل إلي مكانة تسمح لها بأن تكون قوة عاملة نشطة تعمل بجانب مثيلتها علي مستوي العالم كله.
وخاض جماعة من الكتاب والكاتبات في هذا الوقت بالتعليق علي هذا الأمر فمنهم من جند فكرة اشتراك المرأة المصرية فيه ومنهم من استهجنها وتمسك كل فريق منهما بأدلته الخاصة التي أوردها.علي أن فريق المستهجنين الذين اندفعوا للكتابة لم يتطرقوا إلي الطعن في منهج المؤتمر المنعقد فحسب,بل تعدي الأمر إلي الطعن في كفاءة وقدرة المرأة المصرية وعدم أهليتها واستعدادها لتمثيل مصر بصفة مشرفة في النطاق الخارجي مدعين أنها لا تصلح لمواجهة هذا المؤتمر والإدلاء إليه برأي صائب أو فكرة جيدة من شأنها أن تعمل علي رفع قيمة المرأة المصرية أمام تلك الهيئة الناضجة من نساء أرقي شعوب العالم الخارجي!!..حتي لقد ذهب الإغراق ببعض المتهكمين إلي حد أن تساءلوا عما أن يقوله نساؤنا من أعضاء الهيئة الموفدة إذا ما طلب منهن أن يشرحن للمؤتمر ما قامت به بنت النيل من جلائل الأعمال والإنجازات!!…لقد توهم بعضهم معتقدا بأن برنامج المؤتمر الذي نشرته وأقرته اللجنة المصرية ليس فيه ما يلائم حالتنا القومية,ولا يتفق مع شئوننا الاجتماعية علي وجه الإطلاق..وعليه فقد بات تعرضنا لدخول المؤتمر -كما يقولون-أمرا ممقوتا يعرض كرامتنا الداخلية للامتهان البحت!!..
تأسيس المؤتمر النسائي العالمي
بصفة عامة كان هذا المؤتمر نتيجة لتطور طبيعي وطويل في مسيرة المرأة,فقد بدأت النساء حركتهن إبان القرن التاسع عشر الميلادي,ومع ذلك لم يحصلن حتي أوائل القرن العشرين علي حقوقهن السياسية كاملة خاصة علي حق الانتخاب إلا في أربع ولايات من الولايات المتحدة وفي نيوزيلندا وفي جزيرة فانحينئذ عملت السيدة شابمان كان علي إنشاء الاتحاد الدولي واستمرت ترأسه حتي رحلت,وعقد المؤتمر الدولي الأول في عام 1902 في واشنطن, وحضرته ممثلات عن خمس دول من مختلف أنحاء العالم, وفي هذه السنة عقد للمرة التاسعة في روما فإذا الدول التي قبلت فيه بلغت حوالي أربعين دولة,وكان المشهد العام وقتها في البلدة علي أتم ما يكون من الجلال والعظمة فكنت تشاهد عددا كبيرا من السيدات يجلسن في قصر المعرض وفي شوارع المدينة وهن أكثر من ألف سيدة وآنسة تختلف أعمارهن باختلاف عددهن وكذلك اجناسهن ولغاتهن.
وكان المؤتمر الثاني هو الذي جاء بأكثر السيدات إلي روما,ولو أن هؤلاء ارتدين الملابس بلون راياتهن الوطنية لبدت صورة جميلة للدول العظمي والصغري التي تتألف منها القارات الخمس حول العالم,وكان السواد الأعظم بينهن من الأوربيات والأمريكيات أما الأول فيسود بينهن الإنجليزيات في العدد,وكانت غالبية الأمريكيات من نساء الولايات المتحدة,وكان أكبر الاهتمام موجها إلي مندوبات مصر واليابان والصين والهند وفارس.هكذا أضافت روما سيدات يزدن علي الألفين سيدة اجتمعن من سائر أنحاء العالم للدفاع عن حقوق المرأة حول العالم وإظهار فضلها ومدي مشاركتها الفعالة في ظروف المجتمع من حولها.ولقد أظهرن من الجلد علي العمل والنظام فيه ما يجب أن يخجل له السياسيون الذين يعقدون الآن المؤتمرات فتستغرق وقتا طويلا ثم لا تكون نتيجتها إلا الفشل مع ما يبدو فيها من المشاحنات الشديدة والخصومات المتبادلة التي أضاعت ثقة الناس فيما يعقد من المؤتمرات والاجتماعات في وقتنا الحالي.
*الوفد النسائي المصري:
كان الوفد المصري في المؤتمر يجمع بنات مصر القديمة أيام محدها,وكانوا حقا زينة مدينة روما,ورفع مركز مصر وشرفها في عيون الأجانب من كل المذاهب والفئات فالأعضاء المشاركات كن من خيرة سيدات مصر الحديثة ممن لا ينقصن تهذيبا وأدبا وعلما عن خيرة الأوربيات,وليس أدل علي مكانة الوفد المصري في نفوس القوم مما تناقلته الصحف الأجنبية عنه وتناولته كافة الوسائل الإعلامية سواء المقروءة أو المسموعة ففي مقدمة الحوار الذي أجراه مندوب الإذاعة الإيطالية مع هدي شعراوي باشا وقتها قال:كان للوفد المصري الذي ترأسته السيدة الحسناء المهذبة هدي شعراوي باشا مركز ممتاز في المؤتمر النسائي بصفة عامة فإن هذه السيدة تعد من كبريات نساء مصر,وهي أرملة وكيل الوفد المصري,وتزوجت ابنتها وكيل وزارة المواصلات,وهي تنتمي إلي أصل بدوي وهو جنس معروف بشرفه ونبله,وتهذبت السيدة هدي شعراوي تهذيبا أوربيا راقيا وكانت علي رأس الوفد النسائي الذي ذهب إلي سائر السفارات الأجنبية محاطة بالجنود الإنجليزية للدفاع عن استقلال بلادها المصرية.
واخترنا من الحوار الذي دار معها بعض الأسئلة التالية:
**قال مراسل الإذاعة الإيطالية:إلي أي سبب تغرين التغيير الذي طرأ علي عادات المرأة الشرقية؟
*أجابت:الوطن!…إن الشرق يتغير باستمرار نحو الأفضل وهو يريد أن يكون في مستوي المدينة الغربية,ولقد فهمت المرأة الشرقية إنه يجب أن تقوم بقسطها في هذه النهضة وتقدم كل ما لديها في سبيل هذا الرقي وأضرب لك مثلا ما قامت به المرأة المصرية فإنها ظهرت في مظهرها الحقيقي أثناء الحركة الوطنية الكبري في سنة 1919,فنفضت عنها جميع العادات القديمة التي كانت تحول بينها وبين الحياة العامة العتيقة فأبدت نشاطا كبيرا في الحركة الوطنية حينئذ وقد تألفت لجنة سياسية للوفد من النساء تحت رياستي وخدمت القضية خدمة جليلة مشاركة بالقلم والعمل,وكان لما أبدته المرأة المصرية من الشجاعة والكفاءة الفضل في اعتبارها الاعتبار الذي تستحقه,وإنني لا يرتابني شك في أن المرأة المصرية ستتمتع في المستقبل عندما تنشر التربية أكثر من الآن بنفس الحقوق التي للرجل حيث إن قوانيننا المدنية والشرعية لا تعرض في الواقع الاتجاه الحالي نحو تحرير المرأة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
**فسألها المندوب:وإلي أن يحين ذلك الوقت كيف تظهر المرأة الحاضرة اختلافها عن امرأة الزمن الغابر؟
*أجابت السيدة هدي:لقد فهمت المرأة المصرية أن الاستقلال لا يعطي من فراغ بل يكتسب بالعمل والإرادة فأخذت تشجع الأعمال الصناعية والتجارية والثقافية التي من شأنها أن تضمن تحقيق الاستقلال الاقتصادي لمصر وسهرت بوجه خاص علي جعل تعليم المرأة في نفس مستوي تعليم الرجل,وبذلك أنشأت أميرات البيت المالك وسيدات الأرستقراطية المصرية الكثير من المدارس والمشاغل والمعاهد النسائية كمدرسةترقية الفتاة المصرية التي تديرها السيدة نبوية موسي وهي الآن معي مندوبة في مؤتمر روما,وبالجملة فإننا نسعي إلي إعداد أمهات المستقبل المصريات من أجل أداء الواجب العظيم الذي فرض عليهن.
*كلمة سكرتيرة الوفد النسائي المصري:
اخترنا أيضا من الكلمة التي سجلتها إحسان أحمد سكرتيرة الوفد النسائي المصري مايلي:أقدم إليكم رئيسة وفد مصر ذات المدنية العريقة والتاريخ المجيد,التي لما دخلت القاعة الرئيسية للاجتماع ووجدت العلم المصري مرفوعا وبعد أن كان غير موجود من الأساس-كما وافتنا التلغرافات التي وصلتنا من الحضور في حينها-وكان يجمع الصليب بالهلال تأملت فيه مليا ثم سألت:هل هذا علم جديد؟فأجبنها سيداتنا: هذا علمنا الوطني,فأكبرت عاطفة التضامن وروح الألفة الوطنية السائدة في مصر ويظهر أنهم كانوا يعتقدون فينا التطرف والتعصب الديني بدليل أن إحدي السيدات هناك عندما أرادت محادثة وفدنا المصري فيما يتعلق بالوضع الحالي لحالتنا السياسية بصفة خاصة كان أول سؤال وجهته إلي أعضاء الوفد:ما هو القبطي والمسلم في مصر؟فأجابت بأن القبطي يدين بالديانة المسيحية والمسلم يدين بالدين الإسلامي,كل حر فيما يعتقد لكن الكل يدين بالوطنية الخالصة من شوائب التعصب والحقد.
ولو أتيح لمن يعتقد أن اشتغال المرأة بالأمور العامة يفقدها لطفها ورقتها أن يري هؤلاء السيدات لرأي جمالا آخر من العلم والتهذيب الخالص يزين نضرة جمالهن الطبيعي,ولتأكد فساد هذه الفكرة هذه كلمتنا اليوم ونختمها بحث سيداتنا من كافة أنحاء العالم علي ضرورة الاشتراك معنا خصوصا إذا علمن أن أقل جمعية من الممثلات في المؤتمر لا يقل عدد أعضائها عن ألفين وخمسمائة سيدة كما أن من الثلاث وأربعين دولة الممثلات في المؤتمر يوجد خمس وعشرين دولة منهن حصلن علي حقهن في الانتخابات بالفعل,والباقيات يجاهدن لنيله في المستقبل القريب….
*الحزب الديموقراطي ونهضة السيدات:
وبمناسبة رجوع وفد السيدات المصريات الممثل لمصر في المؤتمر أرسلت الأمانة العامة للحزب الديموقراطي المصري إلي حضرة السيدة الجليلة رئيسة الوفد المصري المشارك في فاعليات المؤتمر النسائي الدولي الخطاب الآتي من سكرتير الحزب جاء فيه مايلي:
حضرة المحترمة السيدة هدي شعراوي رئيسة وفد النساء الممثل لمصر في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي.
يتمتع الحزب الديموقراطي المصري بكل نهضة في قومنا للإصلاح والرقي,ويري حقا عليه أن يؤيد دعاة الحرية والعلم والتقدم.ولقد كان ارتاح الحزب عظيما لتوجه السيدات المصريات إلي الإصلاح الاجتماعي الذي يتوقف علي سعيهن فيه ما نرجوه من السعادة البالغة لبلدنا, ويزيدنا ارتياحا إقدام سيداتنا علي الاشتراك في حركات الإصلاح العام ولسير الديموقراطية الحديثة.
لذلك قرر مجلس إدارة الحزب الديموقراطي الوطني في جلسته المنعقدة في 22مايو 1923 أن يبدي إلي حضراتكن الإعجاب والشكر راجيا لنهضتكن التوفيق إلي تحقيق الكمال والنجاح,وتفضلي يا سيدتي الرئيسة بقبول عظيم الاحترام…
*من نتائج المؤتمر:
وفي هذا الإطار يجب الإشارة إلي أنه علي هامش انعقاد هذا المؤتمر النسائي قررالحزب الوطني النسائي الأمريكي الذي ترأسه السيدةأوليف بلمون إنشاء برلمان جميع عضواته من النساء,واختير فعلا محل انعقاده أمام برلمان واشنطن في شهر ديسمبر عام1923 أيضا,وفي نفس التوقيت عقد كذلكالمؤتمر النسائي النيابي,وهو مؤتمر نسائي شبه رسمي يزعم أنه يريد أن يثبت بالمثل علي أن النساء علي اختلاف مستوياتهن الاجتماعية والثقافية في مقدورهن أن يدرسن مسائل جدية بل وقد يشاركن في وضع حلول جذرية لها بدون أية صعوبات أو عناء.
وتجدر الإشارة هنا إلي أن كل برامج المؤتمرات والاتحادات النسائية العالمية التي عقدت في تلك الفترات الماضية تمكنت بالفعل من الوصول إلي وضع استراتيجيات عملية كانت حلولا للكثير من المشاكل والمسائل الدقيقة التي واجهها العالم آنذاك…
والآن وبعد مرور أكثر من نصف قرن من الزمان تمكنت فيه النساء المصريات من المضي قدما في طريق التقدم والرقي من حيث الاعتراف الكامل بضرورة ممارسة جميع حقوقها السياسية ومساواتها بالرجل,واعتبارها شريكا أساسيا ومكملا في صنع نهضة هذا الوطن..ولكن كم تبلغ ثقتنا بالعقل النسائي في وقتنا المعاصر الذي تحتاج إليه تجربة رائدة كهذه المشاركة الفعالة للنساء المصريات في الخارج؟؟
**المراجع
*مجلةالمرأة المصرية-العدد السادس-السنة الرابعة- شهر يونية سنة1923.
*مقال لإحسان أحمد سكرتيرة الاتحاد النسائي المصري في روما-جريدةالأهرام – مايو سنة1923.
*مقالات مترجمة من بعض الصحف الأجنبية شاركت في إعداد متابعة المؤتمر منها:
-صحفية الجورنالي ديتاليا الإيطالية
-جريدةكوتيديان الأمريكية.
*حوار أجرته الإذاعة الإيطالية مع هدي شعراوي باشا إبان انعقاد المؤتمر-مايو سنة1923.