جهاز المعلم شحاتة… أول تمثيلية
10 جنيهات حد أدني للإعلان
مشروع الدولار لإنقاذ معبد أبو سمبل
في تمام الساعة السابعة مساء 21 يوليو سنة 1960, تم بث أول إرسال للتليفزيون المصري عبر المبني الشاهق علي كورنيش النيل, والذي يعد أحد معالم القاهرة. أصبح هذا الصندوق العجيب النافذة الرئيسية علي مجريات الأحداث في العالم رغم الجدل الذي أثاره, فهناك من يراه وحشا مرعبا يجب الحذر من خطورته… ويوجد من يراه الأوزة التي تبيض ذهبا… وفي جميع الأحوال بات التليفزيون فردا أصيلا من العائلة لا يمكن الاستغناء عنه…
شهدت ولادة التليفزيون تعثرا ونهوضا إلي أن بث إلي حيز الوجود.
وترجع بوادر التفكير في التجربة إلي عام 1947, عندما أكدت الحكومة المصرية أنها ستفتح اعتمادا بمبلغ 200 ألف جنيه لبناء ستوديوهات للإذاعة والتليفزيون طبقا لما نشرته جريدة le progres لكن أثبتت الأيام أن هذا العزم لم يتعد مجرد محاولة لاستغلال اسم التليفزيون لتحقيق أغراض سياسية.
اتضحت هذه الأهداف السياسية عندما عرضت الشركة الفرنسية عام 1951, تصوير المهرجانات التي أقيمت بمناسبة الزواج الثاني للملك فاروق وأذيع الحفل الذي تضمن أغنية لمحمد الكحلاوي وعرضا للأزياء العالمية وكان لهذه الشركة عرض آخر هو أن تعرض علي الحكومة المصرية إقامة محطة تليفزيونية بالقاهرة, وروجت الشركة لمشروعها بوضع عدد من أجهزة الاستقبال التليفزيونية في بعض الأماكن بالقاهرة, ونظمت هذه الشركة سهرة محلية شهدها الأعضاء الذين كان من حظهم أن وضعت أجهزة الاستقبال التليفزيونية في نواديهم, ودعا الصحفيون لحضور هذه السهرة التي استخدمت فيها الشركة إمكانيات مصلحة التليفونات بباب اللوق. كما ورد في كتاب الإذاعة والتليفزيون في مصر للدكتور عاطف عدلي العبد أن حافظ محمود نقيب الصحفيين آنذاك ظهر علي الشاشة الصغيرة للرد علي تحية الشركة لصحفيي مصر, وتحدث الجنرال ليسكي قائلا لقد أثبتت التجربة أن جو مصر من أصلح الأجواء التي تساعد علي تعميم التليفزيون فيها ولسوف يتمتع سكان القاهرة وضواحيها بهذا الاختراع أكثر من سكان لندن وباريس.
وهللت كل الصحف وبخاصة الأجنبية الصادرة في القاهرة بتلك التجربة وبالغت كثيرا في الكتابة عنها, ولعل السبب -فيما يبدو- أن الشركة صاحبة التجربة فرنسية, وقالت جريدة la Bourse Egytienne الصادرة في 5 مايو سنة 1951 تليفزيون النيل ولد أمس وقالت جريدة l##Egypt زيارة من القلب لصندوق المعجزات… استوديوهات تليفزيون النيل.
وبات واضحا أن الحكومة المصرية لا تريد التخلف عن دول العالم التي سبقتها في مجال التليفزيون, وبدأ الاتجاه الحقيقي في إدخال التليفزيون وترددت أصداء عن اقتراح هيئة أجنبية لإنشاء محطة للتليفزيون بالقاهرة وستغطي منطقة قدرها 60 كيلومترا, ويمكن أن تزداد فيما بعد, وعرض الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد آنذاك علي الرئيس جمال عبد الناصر موضوع إنشاء دار الإذاعة الجديدة وإنشاء محطة تليفزيونية فوق جبل المقطم. ووافق الرئيس جمال عبد الناصر علي ذلك, ثم التقي صلاح سالم آنذاك محمد أمين حماد مدير عام هيئة الإذاعة والمهندس صلاح عامر وكيل الإذاعة للشئون الهندسية عقب عودته من الخارج وتمثيله لمصر في مؤتمر التليفزيون الدولي, وأبدي الوزير رغبته في تنفيذ المشروع في أقصر وقت ممكن. وقد عهد إلي عز الدين فؤاد كبير مهندسي الإذاعة وضع المواصفات لهذه المحطة والأستوديو والأجهزة الخاصة به حتي يمكن إعلانها في مناقصة عامة لاستيراد جميع ما يلزم وإخراج مشروعها إلي النور خلال عام علي الأكثر.
وخطط لإقامة محطة التليفزيون علي مساحة قدرها خمسة آلاف متر مربع فوق جبل المقطم وأن ينشأ الأستوديو الخاص بها علي مساحة كبيرة بجوار مبني الإذاعة الجديد بميدان التحرير. وقد تقرر أن توفد الإذاعة بعثات من المهندسين إلي الخارج للتدريب علي وسائل استعمال التليفزيون ودراسة نواحيه الفنية لتكون نواة من المهندسين الفنيين يمكنهم الإشراف علي تشغيل هذه المحطة. وقال المهندس صلاح عامر في حديث له بمجلة الإذاعة في 7 يوليو عام 1956 لقد خطت الاستعدادات الفنية لإدخال التليفزيون وأعلنت مواصفات توريد أجهزة التليفزيون وعطاءاتها, وتنافست الشركة العالمية تنافسا كبيرا لتوريد أجهزة لمصر وبلغت مجموعة العطاءات نحو عشرين عطاء وكان من المتوقع بدء خدمة البث التليفزيوني سنة 1957, ولكن جاءت الريح بما لا تشتهي السفن للظروف التي كانت تمر بها مصر وهو العدوان الثلاثي وتوقف تنفيذ المشروع كليا واستؤنف دراسته في عام 1959 بحيث يغطي أكبر رقعة ممكن من الأراضي المصرية, كما تمت دراسة توفير أجهزة الاستقبال بأقل سعر ممكن, واقترح إنشاء مصنع محلي لإنتاجها بمصر بدلا من استيرادها, وفي 25 يوليو من نفس العام فتحت مرة أخري عطاءات المشروع المقدمة من 14 شركة عالمية من كبري الشركات المنتجة لمعدات وأجهزة التليفزيون وتبين أن أصلح المشروعات من الناحيتين الفنية والاقتصادية وسرعة التوريد هو العرض المقدم من شركة R.C.A الأمريكية واستغرق التعاقد ثلاثة شهور أخري حيث أبرم التعاقد مع الشركة علي المشروع بأكمله في نهاية 1959.
في نفس الوقت كان العمل جاريا في إنشاء دار التليفزيون العربي من خلال مبني شامخ علي كورنيش النيل الذي وضعت الرسوم النهائية له عام 1955, بعد دراسات تنفيذية دقيقة شاملة, ودقت أساساته التي تكلفت 108 آلاف جنيه عام 1956, ولكن نظرا للظروف الحربية والسياسية في هذا العام فقد تأخر المشروع وتعثر طيلة ثمانية أعوام. وبدأت تنفيذ الإنشاءات الهندسية ومحطات الإرسال للمشروع في يناير 1960, وتوقع الخبراء العالميون أن التليفزيون العربي يستطيع بدء إرساله بعد عام علي الأقل, لكن د.عبد القادر حاتم حدد يوم 21 يوليو من العام نفسه موعدا لبدء الإرسال وحتي شهر يونية 1960, كانت استوديوهات التليفزيون تحت الإعداد والتجهيز, وكانت التجارب الأولية تتم في مسرح قصر عابدين علي البرامج المتعددة وكان يجري العمل الفني في أحد بلاتوهات ستوديو مصر, وفي نفس الوقت عادت البعثات الهندسية والإذاعية من أمريكا بعد دراستهم بمعهد R.C.A وأكاديمية S.R.T بمدينة نيويورك.
وبني مبني دار التليفزيون العربي علي شكل مستطيل من الداخل, ونصف دائرة من الواجهة المطلة علي النيل ويتكون من اثني عشر طابقا وبوسطه برج يصل ارتفاعة إلي 104 أمتار. ويتكون من 29 طابقا وفي الأعلي برج الإرسال توضع عليه هوائيات للإرسال والاستقبال لنقل الإذاعات الخارجية ويعمل بالمبني 23 مصعدا.
واقترب الموعد المحدد لبدء الإرسال ونجحت المعجزة وافتتح التليفزيون المصري في تمام الساعة السابعة مساء 21 يوليو 1960, وبدأ الإرسال ولمدة خمس ساعات يوميا خلال عيد الثورة الثامن ونقل البرنامج علي الهواء عن طريق سيارات الإرسال الخارجي ليراها الشعب في القاهرة وطنطا وبنها, وشاهد الشعب علي الشاشة الفضية الصغيرة الافتتاح بتلاوة آيات من القرآن الكريم, ثم حفل افتتاح مجلس الأمة, وخطاب الرئيس جمال عبد الناصر, ونشيد وطني ثم نشرة الأخبار والختام بالقرآن الكريم.
وولد التليفزيون المصري عملاقا كما وصفته الصحافة المصرية والأجنبية, فقد ضربت ساعات إرساله أرقاما قياسية بالنسبة لكثير من الدول التي سبقتنا في هذا المضمار بزمن بعيد, فقد وصل إرسال الساعات إلي 11 ساعة من برامجها, وبدأ التليفزيون بتغطية قدرها حوالي 100كم من الإشعاع التليفزيوني حول القاهرة وبدأ إرساله علي قناتين تمكنان من إذاعة برنامجين منفصلين ومختلفين, وكان عدد الأجهزة التليفزيونية لا يتجاوز عشرة آلاف جهاز ولكن نجاح برامج التليفزيون دفع آلاف المواطنين إلي التزاحم علي شراء كل الأجهزة المحلية والمستوردة.
وشهد عام 1961 حركة كبيرة لإنشاء محطات التليفزيون فاختيرت دار الإذاعة بالإسكندرية مقرا لمحطة الإرسال, والمنصورة مركزا رئيسيا ثانيا للإرسال لباقي محافظات الوجه البحري, وإنشاء محطات صغيرة لتقوية الإرسال بالوجه القبلي والبحري, أما بالنسبة لأسوان فقد أنشئت محطة إرسال خاصة بها, وفي المقابل زادت فترة الإرسال وعدد قنوات التليفزيون التي اهتمت بالثقافة وزادت معها أيضا ساعات الإرسال تباعا حتي وصلت في الشهور الثلاثة الأولي من عام 1962 إلي 118 ساعة أسبوعيا.
كان التليفزيون في البدايات إدارة تابعة لهيئة الإذاعة حتي أصبح مؤسسة عامة ذات طابع اقتصادي, وفي 4 أكتوبر 1962 صدر قرار من رئيس الجمهورية بضم هيئة الإذاعة والتليفزيون إلي وزارة الثقافة والإرشاد القومي, وتم فصل التليفزيون سنة 1966 ليصبح هيئة مستقلة. أما عن الدراما التليفزيونية فعندما بدأ الإرسال التليفزيوني قدم تمثيلية مسجلة علي شريط رقم 1 بعنوان جهاز المعلم شحاتة وهي تمثيلية اجتماعية معاصرة واستغرق عرضها ست عشر دقيقة, كما اعتمد التليفزيون علي المسرح في بداية نشأته مثلما اعتمدت الإذاعة, ففي الساعة العاشرة من مساء الاثنين 13 فبراير 1962 تنفس المسرح التليفزيوني أولي نسمات الحياة وذلك لسد الفراغ الذي كان يعانيه من عدم توفر الممثلين المتفرغين له حتي قرر أن يكون له ممثلون يعملن لحسابه ويحملون صفته وأعلن عن مسابقة في التمثيل لتكوين ثلاث فرق مسرحية, الأولي مخرجها نور الدمرداش ومثلت شئ في صدري لإحسان عبد القدوس والفرقة الثانية مخرجها حمدي غيث ومثلت رواية أرض النفاق ليوسف السباعي والفرقة الثالثة مخرجها كمال يس ومثلت رواية العش الهادئ لتوفيق الحكيم وبالتالي حقق التليفزيون إنجازا وهو نقل المسارح إلي المتفرجين في بيوتهم مثل مجنون ليلي والصفقة والدلوعة.
وفي العام الأول للإرسال استعان التليفزيون بالأفلام لسد النقص في البرامج التليفزيونية, إلا أنه في عام 1962 قدم أول فيلم تليفزيوني طويل وهو صراع الملائكة الذي اشترك فيه باقة من نجوم السينما حيث أعده وأخرجه حسن توفيق ويعالج الفيلم مشكلة الفراغ العاطفي في حياة الزوجة, ومدته كانت مائة وخمسين دقيقة واستغرق التمثيل والتصوير 16 يوما. وبلغ عدد ما قدمه التليفزيون مائتي تمثيلية, وثلاثين مسرحية مثلتها الفرق التليفزيونية وتم نقل خمسين مسرحية من المسارح, وفي العام الثاني تضاعف العدد.
وغزا الإعلان التليفزيون في أول أغسطس 1960 أي بعد أسبوع من بدء الخدمة, وذلك نظير أجر لا يقل عن عشرة جنيها ولا يزيد عن ستين جنيه للدقيقة الواحدة.
وعقد المهرجان الدولي الأول للتليفزيون بمدينة الإسكندرية في الأول من سبتمبر سنة 1962 ولمدة عشرة أيام, واشترك فيه عدد كبير من محطات التليفزيون الأجنبية والعالمية, وبلغت 21 محطة تمثل 18 دولة,واستفادت مصر من الناحية الفنية من خلال عروض المهرجان ومنها برامج منوعات والدراما والبرامج التسجيلية والبرامج التعليمية وكسبت مصر من الناحية المادية, وعلي أثر ذلك المهرجان وقعت ثلاث اتفاقيات تليفزيونية بين مصر وبعض محطات التليفزيون العالمية وحققت أرباحا قدرت بحوالي مليوني جنيه من العملات الأجنبية.
وفي المهرجان الدولي الثاني للتليفزيون حضره مندوبو 34 محطة تليفزيونية تابعة لثلاث وعشرين دولة, وأعلن الدكتور عبد القادر حاتم في آخر المهرجان عن مشروع الدولار لإنقاذ معبد أبو سمبل, فمشاهدو التليفزيون في كل المحطات المشتركة سيطلب إليهم الإجابة عن بعض أسئلة عن أبي سمبل مع دفع دولار. والفائزون تستضيفهم الجمهورية العربية المتحدة لمدة أسبوعين علي حسابها وقدرت الإيرادات الأولية لهذا المشروع بحوالي المليون دولار. وعن نتائج المسابقة للمهرجان فازت مصر في برامج المنوعات بالمركز الثاني عن برنامج أضواء المسرح.
يبقي التساؤل: هل التليفزيون مخدر الألم للعالم الحديث كما قال أستريد ألودا أم انتصار للآلة علي الإنسان كما رأي فريد آلين؟.