بعد عام 2001, تغيرت السياسات الخارجية للكثير من البلدان بسبب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية التي أعادت التركيز علي أهمية الأمن القومي. اليوم تتغير هذه السياسات الخارجية من جديد, لكن السبب يعود هذه المرة إلي الأزمة الاقتصادية. والتغييرات ستكون عميقة بقدر تلك التي تسببت بها هجمات 11 سبتمبر. الأزمات الاقتصادية لا تقتل أو تؤذي مثل الهجمات الإرهابية. في الأزمة الحالية, ستكون التأثيرات أكثر انتشارا وأطول أمدا وأقل بروزا. لكن النتائج قد تكون واسعة النطاق بالقدر نفسه, وتمتد إلي عدد أكبر من البلدان وتؤثر في نواح أكثر في هذه البلدان, وليس فقط علي الأمن. يظهر تاريخ الأزمات السابقة أن مصيرنا تحدده
ردود فعلنا علي الحدث أكثر من الحدث نفسه. فقانون سموت هولي الأمريكي للتعريفات الجمركية الذي صدر عام 1930 غالبا ما يذكر كمثال عن كيفية تحول الركود إلي كساد, إن كانت الإدارة السياسية سيئة. في المقابل, فإن الانهيارات المالية وفترات الهلع في مطلع القرن الـ20 أدت إلي موجة من الابتكارات المؤسساتية, حيث تم إحداث تغييرات في البنوك المركزية وقوانين العمل والتنافسية والقوانين المتعلقة بسلامة السلع الاستهلاكية.
في الأزمة الحالية, يسهل تحديد ردود الفعل الخاطئة, ألا وهي: استغلال المشاعر الحمائية, وتأخير العمل علي الحد من التغييرات المناخية, والانعزالية, والتطرف. التحذير من هذه الأمور قبل عام كان سيبدو مبالغا به. لكن اليوم, فيما تكافح الحكومات للبقاء في السلطة ــ فحكومات لاتفيا وأيسلندة وهنجاريا انهارت ــ تبدو هذه المخاوف حقيقية جدا.
وفي حين أن الأزمة تعطي زخما لسياسة الخوف, فهي تعطي دفعا جديدا أيضا لسياسة الأمل. لم تعد ##الضروريات الزائفة##, التي يتكلم عنها الخبير القانوني روبرتو أونجر, تقيد تفكيرنا. لقد انهارت الأفكار النمطية القديمة, مخلفة فراغا يمكن للتقدميين أو الرجعيين أن يملأوه. للحرص علي الفوز, علي التقدميين أن يعالجوا الاختلالات العميقة في التوازن الاقتصادي والبيئي والسياسي التي أدت إلي الأزمة الحالية.
الاختلال الاقتصادي في التوازن بين الأغنياء والفقراء أدي إلي نشوء سوق القروض السكنية عالية المخاطر عندما بدأت البنوك تقدم قروضا لأشخاص غير قادرين علي تسديد ديونهم. كما أن تنامي عدم التوازن المالي العالمي بين البلدان التي تتمتع بفائض وتلك التي تعاني عجزا أدي إلي انخفاض معدلات الفائدة وخلق طلبا علي المشتقات المالية المحفوفة بالمخاطر.
لقد بدأ الأمريكيون الآن يدخرون أكثر من ذي قبل. والصين تدعم الاستهلاك المحلي. وأصبحت بعض الخدمات المالية عالية المخاطر أقل جاذبية. لكن بعض الاختلالات لن تصحح نفسها بنفسها. في الواقع, قد تتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء, وفي داخل البلدان وفي ما بينها. لهذا السبب, علي الحكومات أن تعيد التوازن إلي العلاقة بين الدولة والأسواق لإعادة توزيع المنافع بشكل أكثر إنصافا. وعلي العالم المتقدم ألا ينكث بتعهداته بزيادة مساعداته للبلدان الفقيرة وتحقيق الأهداف التنموية للألفية واستكمال محادثات الدوحة التجارية.
الخلل الثاني في التوازن بيئي: وهو يكمن بين الموارد التي نستهلكها وقدرة الكوكب علي سد النقص المتأتي من ذلك. هذا التفاوت بين الطلب والعرض ــ أزمة الموارد ــ فاقم أزمة القروض. وفي حين أن الواردات النفطية تسببت بنحو ثلث العجز الأمريكي الحالي, فإن ارتفاع أسعار الطاقة زاد من اختلال التوازن في القطاع المالي.
معالجة هذا الخلل أصبحت ممكنة وضرورية أكثر بسبب الأزمة الحالية. لقد أصبحت ممكنة أكثر لأن خطط التحفيز المالية المتعددة أتاحت فرصة كبيرة لزيادة الاستثمارات في قطاعات توليد الطاقة والنقل والمساكن ذات الانبعاثات المتدنية من الكربون. وأصبحت ضرورية أكثر لأنه عندما يبدأ الاقتصاد باستعادة عافيته, فإن عودة سعر النفط إلي ما كان عليه عام 2008, أي 140 دولارا للبرميل, ستكلف الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي واليابان 800 مليار دولار سنويا, أي نحو نصف قيمة خططها التحفيزية الحالية.
الخلل الأخير في التوازن ذو طابع سياسي, وهو يتعلق بموقع النفوذ: ليس فقط داخل البلدان, بل هو الخلل بين الطابع الوطني للسياسات والانتشار العالمي للأسواق وبين المؤسسات الدولية التي يسيطر عليها الغرب وانتقال الثراء الاقتصادي إلي الشرق. ضعف المؤسسات الدولية يصعب التوصل إلي سياسات متجانسة تتلاءم مع حجم المشكلة. لكن الأزمة تعطي دفعا جديدا للتعاون بين الدول من أجل اتخاذ قرارات متعددة الأطراف وتشارك النفوذ والمسئولية. بدلا من خوض جدالات عقيمة حول ما إذا كنا بحاجة إلي مؤسسات جديدة تتضمن القوي الاقتصادية الجديدة, تم إنشاء مجموعة الدول العشرين للتطرق إلي هذه الأزمة الاقتصادية علي أعلي المستويات. ويتم دعم صندوق النقد الدولي من خلال منحه قدرات مالية أكبر وهيكلية أكثر تمثيلية. كما أن الحكومات تنسق جهودها بشكل لم يسبق له مثيل, فيما يتعلق بالإجراءات المالية والتخفيضات في معدلات الفائدة والإصلاحات القانونية.
لقد حدد رئيس وزراء المملكة المتحدة جوردن براون الشروط الضرورية لإقامة ##مجتمع عالمي##. أحدها اعتماد مقاربة جديدة وفعالة لاتخاذ القرارات بشكل جماعي, ومنح الحقوق وتوزيع المسئوليات بشكل يمكن تطبيقه. هذا مهم ليس فقط من الناحية الاقتصادية, بل فيما يتعلق بالحد من انتشار الأسلحة النووية وتجنب النزاعات وحقوق الإنسان أيضا.
لقد أطلقت الأزمة المالية العنان لقوي متنافسة, تقدمية ورجعية علي حد سواء. في عالمنا شديد الترابط اليوم, يؤدي عدم التوازن إلي عدم الاستقرار ويجعلنا جميعا أكثر فقرا. آن الأوان لإيجاد توازن جديد.
* وزير خارجية المملكة المتحدة