-300 ألف قتيل في دارفور. هؤلاء من المسئول عن قتلهم, أو عن العجز عن حمايتهم من القتلة الجنجاويد (الجن علي الجياد كما سماهم الدارفوريون)؟
- الذين لا تستثار حساسيتهم حيال 300 ألف قتيل دارفوري سوداني, ولا حيال مئات آلاف العراقيين الذين سبق أن قضي عليهم صدام حسين…, هؤلاء مطعون بحساسيتهم ذات الصوت المطنطن تجاه ما تفعله إسرائيل وما تفعله أمريكا. إنهم أصحاب حساسية مبرمجة علي إيقاع سياسي, أو سياسوي, ضيق ورخيص. كان يمكن, مثلا, تأييد المحاكم حيث تنشأ والمطالبة بأن يمتد عملها بحيث يطاول أمريكا وإسرائيل. هذا لا يحدث.
- الذين لا يريدون محكمة لجرائم دارفور يعلنون أنهم: أولا, لا يكترثون للموت الجماعي (ولما كان الضحايا سودا أفارقة, فهذا ينم عن دلالة عنصرية مؤكدة), ثانيا, لا يعبأون بمقاضاة الحاكم حين يكون عربيا, أو في أحيان أخري, مسلما, وبالتالي, لا يريدون انتزاع حرياتهم منه, ثالثا, لا يحترمون العدالة مبدأ وواقعا (ظهرت كتابات عن محكمة هولندا لجريمة رفيق الحريري تدل, تبعا لقراءة فرويدية بسيطة, كم كان الكتاب مستعدين لقتله, في ما لو تأخر القتلة الفعليون!).
هؤلاء يجمعون في ذواتهم عددا من الخصال غير الحميدة (استسهال القتل, رفض العدل, كره الحرية). وهي خصال تكفي لجعل أصحابها-إذا كان لا بد من العيش في ظل العداوة- الأجدر بنعت العدو.
- سلوبودان ميلوشيفيتش الصربي وتشارلز تايلور الليبيري, والآن عمر البشير السوداني, لا توجد في بلدانهم محاكم موثوقة تنبع الثقة بها من استقلالية القضاء. لهذا لا بد من هيئة دولية أرفع تتولي هذه المهمة. الأمر إذا ليس كيلا بمكيالين بل تمييز بين نمطين من الأنظمة.
- المحاكمة الجنائية, حين نشأت, عارضتها الولايات المتحدة مؤكدة علي أولوية قانونها ومحاكمها. آنذاك هللنا جميعا للمحكمة الجنائية ظانين أنها لن تنعقد إلا لآرييل شارون, ثم تغلق أبوابها. اليوم, بعض أولئك المهللين أنفسهم يعبرون عن عدائهم لها!
- في رفض المحكمة الدولية, عندنا, نوع من أيديولوجيا شعبية عابرة للفوارق تجمع بين الحاكم والمحكوم: الحاكم, بإحباط تلك المحكمة, ينجو بنفسه لكنه أيضا يكسب المزيد من تأييد شعبه (جماهيره) والتفافه, علي النحو الذي نراه في السودان اليوم. أما المحكوم, فيتأكد من أن حاكمه وطني أصيل لا يهادن الاستعمار!
- فضلا عن التضامن مع الأخ عمر البشير, يكتسب العداء للمحكمة في بلد كلبنان معني استباقيا: الطعن بالنتائج التي قد تؤول إليها المحكمة الأخري التي ستنظر في جريمة اغتيال الحريري ورفاقه. أمر المهمة: ابدأوا تلطيخ السمعة من الآن.
- محكمة البشير قد تهدد بتفسيخ الكتلة الشعبوية – اليسارية في الغرب لأن من الصعب, إن لم يكن من المستحيل, أن يحظي البشير بتعاطف الأوربيين. العداء لأمريكا لا يكفي وحده لاجتراح معجزة كهذه وتلطيف صورة البشير.
- أن تمضي الجماهير العربية في مناهضتها المحكمة, فهذا ما سوف يوسع الهوة التي تفصل العرب عن الأفارقة, خصوصا أن عربا يذبحون الدارفوريين غير العرب. وصول باراك أوباما, الأفرو – أمريكي, إلي البيت الأبيض, يجعل الأفارقة أشد إصرارا علي إحقاق الحق وكف أيدي ملاك العبيد الجدد.
- حتي لو وضعنا دارفور جانبا, ماذا عن رصيد الحكم الإسلامي الذي يتربع عمر البشير في سدته؟ الجنوب, الفقر, الحياة السياسية والحزبية بما فيها ما طاول بعض الإسلاميين أنفسهم. آخر الأيدي البيضاء لنظام الخرطوم علي شعبه طرد المنظمات الدولية والقائمين بأعمال إغاثة السودانيين. أليست هذه, هي الأخري, من صنائع الأمم المتحدة التي تريد الانتصار للعدالة في السودان؟
ها نحن نوصد بابا آخر بيننا وبين العالم.
عن جريدة الحياة