قررنا-من جهتنا-إعمال قانون الطوارئ داخل منزلنا..وذلك عقب أحداث(غرفة المعيشة)والتي أصيب خلالها قطنا الأسود ذو العيون الزرقاء اللامعة إصابات بالغة,وكسرت ذراع طفلتنا الصغيرة,واحترقت أطراف أصابعها فيما تهشم زجاج النوافذ وتحطمت بعض الكراسي الخشبية وتحول صندوق اللعب إلي بقايا..وعلي أثرها أيضا أغلقنا مفاتيح أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة وأسكتنا الفضائيات بل وقمنا عن عمد وبسبق إصرار وترصد بتفكيك وصلات الدش.
والسبب وراء الفتك بأجهزة الإعلام داخل منزلنا إنها كانت السبب الرئيسي فيما حدث لأسرتنا..فقد أدخل الطوفان الإعلامي الخارج عن السيطرة والذي خضعنا له باستسلام كامل ساحات الحروب وأدوات الدمار داخل غرفة المعيشة بل واقتحم غرف النوم والأشد فتكا ما أوغل صدور الصغار وعشش بين أدوات اللعب البريئة.
لا ننسي أحداث يوم عندما استيقظنا فجأة من قيلولة الظهيرة علي أصوات وتكسير وصياح داخل غرفة المعيشة تخلله ما يشبه صوت طفلنا الأكبر الذي كان يصرخ كمن لدغه عقرب حيث وقف علي أحد الكراسي بالغرفة وهو يلوح بالقول(إليكم البيان التالي:نجحت قوات المقاومة المنزلية في اجتياح المنطقة والاشتباك مع قوات العدو الإسرائيلي واقتناص القط الأسود..وقد شب حريق هائل في المنطقة أسفر عن إصابة طفل وطفلة وتم نقل المصابين من الأطفال إلي المستشفي).
وفيما كنا لا نزال نستجمع قوانا انفتح الباب الغرفة عنوة واندفع الصغيران وأخذا يرددان عبارات النصر والجهاد وحصار قوات العدو وتطهير المنطقة فيما ربط أحدهما الايشارب الأبيض الجميل بعد أن لطخه بألوان مائية زرقاء برسم النجمة ورفعه علي عصا وأشعل الآخر عود الثقاب لتمسك النار في أطرافه!!.
فتحت فاي ولم أنطق ببنت شفة فيما وجدنا ابنتنا الصغيرة تلف عروستها بحرص بقماش أبيض وهي تقبل وجنتيها وتنساب دموعها لتغطي شعر العروسة وهي تردد(حسبنا الله ونعم الوكيل)؟!وأمسكت عروستها وكفنتها بحرص وأدخلتها لتستقر بين رفوف دولاب ملابسها..فيما لمحنا في المشهد قطتنا الجميلة وصغيرنا وهو يوسعها ضربا وركلا بقسوة وهي تموء لتستنجد ويبدو أنها أصيبت بعدة كدمات من آثار الضرب المبرح بالعصا الغليظة ونظر إليها وهي تتألم وحملق في شواربها المرتعشة وبسرعة خاطفة أمسك بذيلها وأخذ يردد ويصيح لقد اقتنصتها..لقد انتصرنا وهرول الآخرون تجاهه وهم يصيحون علي القط المسكين.
ظللنا صامتين ننتفض من الرعب ولسان حالنا يقول: ماذا حدث للأولاد؟وماذا ألم بهم؟حاولنا عبثا أن نستجمع قوانا لنمسك بأحدهم خاصة بعدما اشتعلت النيران بغطاء الرأس(الإيشارب الأبيض)ولكن محاولاتنا باءت بالفشل..وبسرعة ولهفة قادتني قدماي تجاه المطبخ لأسرع نحو صنبور المياه وأملأ إحدي الزجاجات بالمياه.وألقي بها علي الإيشارب المحترق واستخدمت الباقي لأنثره علي وجوههم حتي يستفيقوا…أنقذت الموقف صغيرتي وهي تضحك وتبكي في آن واحد وتقول انتصرنا يا ماما…ماتخافيش إحنا كنا بنلعب.
دخلنا غرفة المعيشة لنكتشف أنها أصبحت أحد أحياء غزة فيما تحول أثاثها البسيط ودولاب لعب الأطفال إلي أنقاض وفوجئت بما ارتفع علي حوائطها من لافتات تحمل عبارات الجهاد والموت للأعداء.
تذكرنا(للتو)صغيرتنا فمنذ قرابة يومين استيقظت في ساعة متأخرة من الليل من الفراش لتهرول تجاه الصيدلية المنزلية الصغيرة وتستخرج قطعة من القطن النظيف وفوطة بيضاء فيما كنا لا نزال نتابع النشرة الإخبارية عبر إحدي القنوات الفضائية فما كان منها إلا أن اقتربت بقطعة القطن تجاه الشاشة التي كانت يوما ما(فضية)واصتبغت مؤخرا بلون الدم والدمار وأخذت تمسحها في بطء وهدوء ووسط دهشتنا أخذت تعلل فعلتها بالقول وأظنها كانت مابين النوم واليقظة(أنا بامسح دماء الصغيرة شيماء حتي تأتي سيارة الإسعاف وتنقلها للمستشفي)؟!.
وأتساءل إذا كان أطفال الحروب في غزة والعراق ودارفور قد سددوا الثمن الباهظ لفاتورة الحرب التي اغتالت براءتهم ودفنت أحلامهم بين الأنقاض حتي أن 99% من أطفال غزة وفق أقرب الإحصائيات مصابون نفسيا واستلزم ذلك أن تخصص بعض الهيئات الإنسانية مرشدين نفسيين لهؤلاء الأطفال خاصة الذين قضوا ليالي بجوار جثث أهلهم وهو ما أكدته موفدة اليونيسيف بأن هؤلاء الأطفال باتوا أكثر خوفا وأنه وإن نجحت جهود الإعمار تبقي المهمة الأصعب وهي بناء الإنسان الفلسطيني الذي عايش الدمار وأسكنهم قبور الخوف.
وإذا كان هكذا الحال مع أطفال غزة,فما هو الحال مع أطفالنا في مصر,ومن يتبرع بعلاجهم نفسيا بعدما أفقدناهم سلامهم وتركناهم حائرين في مرمي الفضائيات التي نتابع فيها نحن الكبار علي مدي ساعات اليوم وقائع الحروب والدمار لننقلها بدون أن ندري أو نقصد عبر الصور المأساوية التي تدور رحاها في بؤر مختلفة حول العالم من الشاشة إلي داخل منازلنا لتقع نفوسهم البريئة في براثنها وتشعل خيالهم فلا غرابة إذا في اشتداد العنف بين الأطفال لأن المسافة أضحت ليست ببعيدة بين واقعنا وخيالاتهم.