بعد سلسلة طويلة من السياسات العقيمة والتي أدت إلي تعميق الانقسام الفلسطيني, وجعلت من المصالحة الفلسطينية حلما بعيد المنال, وبعد سلسلة أخري من المغامرات الخاطئة والتي جلبت الكوارث علي أهل غزة وأودت بحياة آلاف الأبرياء الذين ذهبوا إلي لقاء ربهم من غير أن يتحقق أي هدف نضالي غير إحكام الحصار علي أهالي غزة والاستنفار الدولي لمنع وصول أي سلاح إلي غزة, وبعد احتفالات خادعة بنصر إلهي موهوم لم يجن منه سكان غزة إلا مزيدا من البؤس والمعاناة, أدركت ##حماس## أنها في ورطة كبيرة وأن شعبيتها في الحضيض وأن هامش المناورة أمامها قد ضاق, فهي لن تستطيع أن تطلق الصواريخ ضد المستوطنات مرة أخري لأن الرد سيكون أكثر وحشية علي يدي الحكومة اليمينية المتطرفة. هذا الدرس الباهظ الكلفة الذي توصلت إليه ##حماس## مؤخرا, هو نفس الدرس الذي أدركه ##حزب الله## من قبل بعد صيف 2006 عقب مغامرته غير المحسوبة والتي جرت الخراب علي لبنان, ولذلك لم يطلق ##حزب الله## منذ ذلك اليوم طلقة واحدة علي إسرائيل رغم تجدد الدواعي لذلك, لكن الشعوب هي التي تدفع الثمن دائما, لقد علمتنا تلك الدروس أن هذه الجماعات الأيديولوجية المسلحة والتي تعمل خارج نطاق السلطة الشرعية للدولة وتتخذ قرارات مصيرية من وراء ظهرها, لن تتعلم وتستوعب الدروس بسهولة لأن قادتها يعيشون في أوهام وخيالات, ويصبحون أسري للشعارات الحماسية التي يعبئون الجماهير والأنصار بها, لذلك عندما يتخذون قرارات مصيرية منفردة لا يحسنون قراءة الأوضاع والموازين الحقيقية في الساحة, فيغامرون, وتكون العاقبة أكبر الخسائر في الأرواح وأعظم الدمار للأوطان ومن غير أن يتحقق أي هدف نضالي أو سياسي, والأنكي أنهم يزعمون من بين الخراب والدمار والأشلاء, أنهم منتصرون! بل تبلغ بهم الجرأة أن ينسبوا نصرهم المزعوم إلي الله! والأغرب أنهم يجدون من يصدقهم ويحتفل بنصرهم! إذا كان الدمار نصرا فماذا تكون الهزيمة؟! وكيف ينصر الله قوما وهم يبطشون بإخوانهم واستحلوا دماءهم وجعلوا همهم السلطة والحكم؟!
تبدو ##حماس## اليوم كما لو أنها استوعبت الدروس السابقة وهي تحاول أن تحافظ علي بقية رصيدها الجماهيري عبر إبداء بعض المرونة السياسية مع مطالب المجتمع الدولي -عامة- ومع الراعي الأمريكي خاصة. لقد وجدنا قادة ##حماس## يطلقون التصريحات بأنهم مع الحوار ومع السلام ومع الحل السلمي, يريدون أن يتجنبوا العزلة ويتواصلوا مع المجتمع الدولي لكنهم إذ يريدون الانفتاح علي الخارج يخشون أن يصارحوا قواعدهم الجماهيرية في الداخل فيتشددون. ومشعل رئيس المكتب السياسي لـ ##حماس## أدلي في مقابلة طويلة استغرقت 5 ساعات مع صحيفة ##نيويورك تايمز## بتصريحات لو كان صادقا فيها لما كان هناك أدني خلاف بينها وبين المبادرة العربية التي تتبناها السلطة الفلسطينية, فقد جاء في هذه التصريحات قوله: ##أتعهد للإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي بأن نكون جزءا من الحل بشكل نهائي##, كما لم يتردد في تأكيد أنه كان ##تواقا إلي وقف إطلاق النار مع إسرائيل##. وفي إشارة ذات مغزي قال: ##إن حماس أصدرت أوامرها بوقف إطلاق الصواريخ من غزة علي إسرائيل##. وليس هذا فحسب بل ##إن الحركة قادرة علي ضبط ذلك, ليس علي أفرادها فقط, وإنما علي جميع الجماعات الأخري##. وفي اعتراف نادر بالخطأ قال إن ##حماس## الآن تقوم بعملية مراجعة لعمليات إطلاق الصواريخ علي اعتبار أن إطلاقها هو ##وسيلة وليس هدفا بحد ذاته##.
لكن السؤال: كم تطلب ذلك من تضحيات وتكاليف باهظة حتي تدرك يا مشعل أن إطلاق الصواريخ وسيلة وليس هدفا؟! ألم تقل السلطة الفلسطينية ذلك مرارا وتكرارا, وأن المقاومة لها وسائل عديدة لا تنحصر في إطلاق الصواريخ التي ضررها أكبر من نفعها؟ بل ألم ينصحك, يا مشعل, كثير من العرب المعتدلين بتجديد الهدنة وعدم إطلاق الصواريخ, فرفضت وكابرت واتهمت وخونت وحملتهم مسؤولية سقوط الشهداء وخوفتهم من محاسبة الله لهم؟ والمدهش في تصريحات مشعل هذه هو أنه ##مع قبول دولة فلسطينية بحدود 1967 علي أساس هدنة طويلة, متضمنا القدس الشرقية وفك المستوطنات وعودة اللاجئين##.
إذا كنت يا مشعل تقبل دولة فلسطينية بحدود 1967, ففيم حربك علي إخوانك في ##فتح##؟ وفيم تخوينك لهم؟ وفيم صراعك علي السلطة معهم؟ يقول مشعل إنه كان ##تواقا## لوقف إطلاق النار, وتناسي أنه وبقية قادة ##حماس## كانوا يستخفون بحجم الخسائر ويرددون: ##ما خسرناه ضئيل جدا والمقاومة بخير##, بل إنهم وقفوا ضد الدول العربية التي بذلت مجهودا خرافيا من أجل إنقاذ الشعب الفلسطيني من دمار محقق وأهوال حرب وحشية, وصرح هنية من مخبئه الآمن يومها بأنه لن يتخلي عن موقفه ولو أبيدت غزة عن بكرة أبيها! تناسي مشعل أن ##حماس## رفضت القرار الدولي بوقف النار وقالت إنها غير معنية به لأنهم لم يتشاوروا معها! ثم أقاموا احتفالات ضخمة بالنصر الإلهي! إذا كنتم قد انتصرتم ففيم مراجعتكم لعمليات إطلاق الصواريخ! ولماذا تقبل يا مشعل بدولة فلسطينية بحدود 67 وميثاق ##حماس## يدعو إلي محو إسرائيل من الوجود عبر سبيل الجهاد لا غير؟! يبدو أن هذا الموقف الجديد لـ ##حماس## هو الذي أثار حليفتها ##الجهاد الإسلامي##, حيث صرح نافذ عزام القيادي في ##الجهاد## قائلا: ##إن إجراء أي شكل من أشكال الحوار مع إسرائيل يعد مخالفا للشرع##, كما رفض أي حوار مع الإدارة الأميركية لأنها تدعم إسرائيل. وبدوره رفض نائب الأمين العام لـ ##الجهاد## زياد النخالة المبادرة العربية واعتبرها أخطر من وعد بلفور, واعتبر قبول مشعل بدولة علي حدود 67 خطوة خطرة, فيها ضياع لفلسطين التاريخية. وفي تعريض بموقف ##حماس## الجديد قال: ##نحن لا نجامل أحدا في الموقف السياسي##. وقد جاءت هذه التصريحات ردا علي تصريحات مفتي ##حماس## يونس الأسطل الذي أبدي استعداد ##حماس## للحوار مع الإدارة الأميركية ومع إسرائيل!
إذن لماذا تخونون السلطة في حوارها مع أمريكا وإسرائيل! جاء الرد الإقصائي التخويني: ليست المشكلة في الحوار وإنما المشكلة فيمن يحاور! السلطة محاوروها ليست عندهم حصانة إيمانية ولا حصانة وطنية! إذن هذا هو مربط الفرس, ##حماس## لا مشكلة عندها في الحوار مع العدو المغتصب لكنها تريد أن تكون هي المحاور لا السلطة… هذا هو هدف ##حماس## منذ البداية ولكن لماذا؟ لأن ##حماس## تحتكر الوطنية والدين وعندها من الحصانة ما يعصمها من التنازل أو التفريط في الثوابت! هذا هو الإقصاء الديني والوطني وهو أقتل داء ابتليت به الأرض العربية علي أيدي الانقلابيين الثوريين وجماعات الإسلام السياسي, عندهم صكوك الوطنية وبيدهم مفاتيح الجنة! ما أقسي الحياة في ظل هؤلاء الإقصائيين!
أستاذ الشريعة بجامعة قطر