كتب رئيس ##مجلس العلاقات الخارجية – إحدي مراكز صنع القرار خارج الحكومة الأمريكية – ريتشارد هاس بأنه يتعين علي الولايات المتحدة تأسيس عقيدة للسياسة الخارجية, أطلق عليها مصطلح ##الترميم##. إن الهدف من ##الترميم## هو ##إعادة موازنة الموارد المخصصة لمواجهة التحديات المحلية, مقابل تلك الدولية, لصالح الأولي##. وأضاف, سيكون الهدف من هذه السياسة هو ##استعادة قوة هذه البلاد وتجديد مواردها – الإقتصادية والبشرية والمادية##.
مما لا شك فيه أن مشورة هاس حول التركيز علي الأولويات المحلية ستجد جمهورا مستعدا لقبولها في دولة, متضجرة من الحرب وقلقة من صحة اقتصادها. إنها محقة في ذلك – فاقتصاد الولايات المتحدة هو الأساس الذي يستند عليه أمنها القومي. فإذا لا يتمكن الشعب الأمريكي من زيادة ازدهاره والاستمرار في قيادة العالم في مجالات مثل التعليم والابتكار, فلا محالة من تراجع قوته ونفوذه في العالم. وفي هذا الصدد, من الضروري أن تقوم الولايات المتحدة بممارسة المزيد من الانضباط المالي وتستجمع شجاعتها لمعالجة مشاكل الميزانية الطويلة الأمد, لكن هذا ليس كافيا. يجب علي الشعب الأمريكي أن يكون حذرا أيضا لكي يزيل العوائق التي تحول دون تحقيق نموه الاقتصادي وقدرته التنافسية.
ومع ذلك, ففي نطاق صياغة عقيدة السياسة الخارجية, لا يكفي القول بأنه يجب علي الولايات المتحدة أن توجه طاقتها وقوتها من خلال اتباع سياسات داخلية معقولة. يجب عليها أن تحدد ما بوسعها العمل بقوتها. ومن هنا ينهار ##ترميم## هاس.
وبتوقعه حدوث انتقاد لوصفته السياسية التي تنظر نحو الداخل, يؤكد هاس أن ##الترميم ليس انعزالية##, ويدعو إلي العمل علي نطاق دولي عندما يؤكد ##التقييم الدقيق لمصالح الولايات المتحدة## نحو القيام بذلك. وبطبيعة الحال, إن السؤال الحقيقي هو كيف يمكن للمرء أن يحدد تلك المصالح, ويعمل علي تحقيقها. في رأي هاس, يتعين علي الولايات المتحدة أن تحدد هذه المصالح بصورة ضيقة – وعلي حد تعبيره ##تحديد السياسة الخارجية نحو الموضوعات الأكثر أهمية##. وفي حين لا يستبعد هاس احتمال شمل ##عناصر تعزيز الديموقراطية, ومكافحة الارهاب, والنزعة الإنسانية## في السياسة الخارجية, إلا أنه يحذر بقوله بأنه ينبغي الحفاظ علي هذه السياسات حتي ظهور ##الفرص أو المقتضيات##. ويذكر هاس أيضا بأنه قد يكون من المناسب اتباع نهج في المستقبل يكون أكثر إيمانا بالدولية, لكن يجب علي الولايات المتحدة أن تقوم أولا بـ ##فرض النظام في بيتها##.
ومع ذلك, يسفر هذا النهج عن قيام رؤية للسياسة الخارجية, تكون متواضعة جدا لكي تستطيع أن تعزز الأمن والرخاء في الولايات المتحدة علي المدي الطويل. ولا يمكن للشعب الأمريكي أن يهمل أو يؤجل القضايا الدولية لصالح الأمور الداخلية. فرفاهيته لا تتوقف فقط علي الظروف السياسية والاقتصادية في الداخل, ولكن أيضا علي تلك التي في الخارج. إن الرأي القائل بأنه بإمكان الولايات المتحدة الاستجابة فقط إلي تلك القضايا التي لها تأثير مباشر علي الشعب الأمريكي وباستطاعتها تجاهل ما يحدث داخل البلدان والمجتمعات في الخارج, هو ببساطة لا يتناسب مع واقع اليوم. فقد تمت عولمة الازدهار الاقتصادي للشعب الأمريكي, حيث أن التجارة ورأس المال واليد العاملة تتحرك علي نحو متزايد عبر الحدود الوطنية. وهو الأمر فيما يتعلق بأمن الولايات المتحدة, حيث لم يعد باستطاعة المحيطات توفير مناطق عازلة من التهديدات الخارجية التي كانت توفرها ذات مرة, في الوقت الذي يعيش فيه عدد أكبر من الأمريكيين برفاهية أكثر ويسافرون إلي الخارج.
وبالتالي, لا يمكن للولايات المتحدة تحمل النهج المتسلسل للتعاطي مع العالم الذي يقترحه هاس, والمتمثل بالبحث أولا في مشاكلها قبل التوجه مرة أخري إلي الخارج في وقت ما في المستقبل. فالأسواق المفتوحة للتجارة في الخارج ستعزز الانتعاش الاقتصادي الخاص للشعب الأمريكي; إن تشجيع الديموقراطية في الخارج سوف يحافظ علي أمن الولايات المتحدة. لقد خلط هاس موضوع الترويج للديمقراطية مع ##الاطاحة بالأنظمة الاستبدادية##, ولكن هذا أمر مضلل. إن تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والحقوق المدنية والأسواق الحرة تضم مجموعة من الإجراءات والسياسات — الثنائية والمتعددة الأطراف, باستخدام القوة الخشنة والقوة الناعمة, التي تشمل القطاع العام والقطاع الخاص. وبطبيعة الحال, إن هاس محقا في نصحه بتوخي الحذر عندما يتعلق الأمر بالحرب, ويشدد علي ضرورة فهم الشعب الأمريكي لأهدافه, وقدراته, والقيود في تعاملاته الخارجية بصورة واضحة, ولكن ذلك لا يستلزم وجود سياسة خارجية تقوم علي تطلعات متواضعة.
وفي الإطار الذي يصفه هاس, قد لا تنطوي مواضيع مثل تعزيز الديموقراطية, وحقوق الإنسان, والأسواق الحرة علي قيام مصالح حيوية أو تهديدات مباشرة – وبعبارة أخري, ##ما يهم بصورة أكثر##. ولكن مثل هذا التفكير يتسم بقصر النظر. ينبغي ألا تقتصر السياسة الخارجية الناجحة علي حماية المصالح الراهنة والتصدي للتهديدات القائمة اليوم, بل يجب أن تتوسع لتشمل عالم الفرص ,المتاحة] للمصالح الأمريكية في الخارج, ونزع فتيل التهديدات قبل خروجها إلي حيز التنفيذ. إن التأكيد علي الديمقراطية وحقوق الإنسان والتجارة الحرة والاستثمار يعني توسيع الفرص الاقتصادية في المستقبل, ورعاية جيل قادة الغد حتي عند التعامل مع قادة اليوم. وبقيام الولايات المتحدة بمعالجة هذه المواضيع, فهي تسعي إلي خلق سياق دولي يكون أكثر ملاءمة لمجموعة كاملة من المصالح الأمريكية, بدلا من سعيها ببساطة إلي تحقيق كل واحدة منها علي حدة.
إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في استعادة قوة الشعب الأمريكي, فيجب علي هذا الشعب أن يفهم مصادر قوته. وكما أشير سابقا, إن صحته الاقتصادية هي الأساس لأمنه الوطني. ولكن هناك اتجاهين لهذا النهج – إن استعداد الشعب الأمريكي لممارسة قيادته في الخارج بصورة حكيمة, وتحمله مسؤوليات عالمية, وتجسيده نظام دولي بدلا من قبوله له بشكل سلبي, سيثمر عن تعزيز ازدهاره الاقتصادي وحيويته. لقد فهمت الولايات المتحدة ذلك علي مدي عقود من الزمن, وسعت إلي تعزيز الحرية السياسية والاقتصادية في الخارج حتي في الوقت الذي تعاملت فيه مع الأزمات في الداخل. وإذا ما وضعت الآن هذه الأعباء جانبا وركزت نحو الأمور الداخلية, فإن ذلك سوف لا يضر العالم فحسب, بل الولايات المتحدة أيضا. إن أمريكا تحقق العظمة من خلال قيام الشعب الأمريكي بإعداد نفسه لمهام كبيرة وباقتناع شديد. إن الآن هو الوقت لقيام الولايات المتحدة بتنظيم ميزانياتها, وبرامجها, ونفقاتها, ولكن ليس لتنظيم طموحات شعبها في العالم.
مايكل سينج مدير سابق لشئون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي.
فورين بوليسي