منذ أكثر من قرن من الزمان بدأ المصريون يدخلون في نمط جديد من الحياة السياسية والمشاركة الإيجابية في العمل الوطني العام, وذلك بوجود العمل الحزبي, ويمكن القول بصورة أكثر دقة إن نمو الحركة الوطنية المصرية عمل علي حتمية العمل الحزبي وذلك من خلال الأحزاب التي لها برامج وأيديولوجيات محددة وهياكل تنظيمية مخصصة لهيئاتها السياسية وإصدار معين أو جريدة تعبر عنها وعن أهدافها واستراتيجياتها الأساسية, وكانت البداية الحقيقية لترسيخ مبدأ الوحدة الوطنية في مصر مع مولد صرخة مصر للمصريين وهي الصرخة الشهيرة التي كانت بمثابة حجر الأساس في الوحدة الوطنية, وعليها تأسس الحزب الوطني الأهلي سنة 1879, ووضع البرنامج الخاص بهذا الحزب واستراتيجيته الأساسية وأهم أهدافه ومبادئه واتجاهاته الإمام الشيخ محمد عبده , لويس صابونجي وكلاهما زميلا السيد جمال الدين الأفغاني, ونص برنامج الحزب الذي وافق عليه أحمد عرابي وتبناه وجعله بمثابة ميثاق وطني لحركته أكد في مادته الخامسة علي أن: الحزب الوطني الأهلي هو حزب سياسي لاحزب ديني صرف, فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب, وأغلبه أفراد مسلمون. ذلك لأن نحو تسعة أعشار الشعب المصري من المسلمين, وجميع النصاري واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها منضم إليه بصفة أساسية لأنه لا ينظر إلي اختلاف المعتقدات, ثم أعاد البرنامج ليؤكد بوضوح شديد : أن الحزب يعلم أن الجميع إخوة وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية تماما, وهذا أمر مسلم به عند أخص مشايخ وأئمة الجامع الأزهر الذين يعضدون ويدعمون هذا الحزب بكل قواهم, ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهي عن البغضاء وتعتبر الناس في المعاملة سواء؟ والمصريون لا يكرهون الأوربيين المقيمين في مصر من حيث كونهم أجانب أو نصاري, وإذا عاشروهم علي أنهم مثلهم يخضعون لقوانين البلاد ويدفعون الضرائب كانوا من أحب الناس إليهم نواب الأقباط في عهد الخديوي إسماعيل.
هذا وتؤكد الوثائق التاريخية الرسمية سياسة التسامح الديني التي اتبعها الخديوي إسماعيل بين فئات الشعب المصري مسلمين وأقباط, فعين من الأقباط في مناصب نظارة الأقلام في قضايا المديريات (وهم بمثابة رؤساء القضاء في المحاكم الوطنية في هذا الوقت) يوسف بك عبد الشهيد الذي عين مديرا لديوان القضايا في المنيا, عوض الله سرور من أعيان القليوبية وكيلا لمديرية البحيرة, ثم وكيلا لمديرية الغربية, وهو أمر لايقل أهمية عن التمثيل في المجالس التشريعية , وتلازم هذا التطبيق مع إلغاء المجالس القضائية القديمة التي كانت تقتصر علي تعيين القضاة من المسلمين وحدهم , فلزم تعيين القضاة من المصريين بصرف النظر عن الدين ليتكون بهذا قضاء مصري عادل ديموقراطي يخضع له المصريون جميعا. هذا فضلا عن تسليم رئاسة المصالح الحكومية والنظارات الرسمية حتي الجمعية السنية نفسها للأقباط, إذ عين واصف باشا عزمي القبطي في وظيفة سرتشيفاني خديوي (أي رئيس لديوان الخديوي), ولما تشكل مجلس النواب المصري لأول مرة في بداية عام 1866 قضي الخديوي إسماعيل من خلال أمر رسمي عال بوجوب انتخاب عضو قبطي عن كل مديرية فيه, فنجد في هذه السنة مثلا جرجس برسوم عمدة بني سلامة (من نواب بني سويف والفيوم), ميخائيل أثناسيوس عمدة الشروية (من نواب المنيا وبني مزار) , وكان الخديوي إسماعيل قد تحدث مع نوبار باشا في خطاب رسمي عن أهمية انتخاب مجلس شوري النواب فقال له : عندنا أقباط أيضا من المنتخبين, وقد فتحنا الأبواب للمسلمين والأقباط بدون أي تمييز , وقبل تشكيل ذلك المجلس تقرر ترشيح الأقباط لانتخابات مجلس الشوري, ويذكر في شأن هذا المجلس أن اجتمع نوابه علي : أنه يجب علي المدارس الأميرية أن تقبل أولاد النصاري والمسلمين بدون تفرقة , وقال أحد أعضاء مجلس النواب من واقع محضر جلسته المنعقدة في 28 رجب سنة 1283 هجرية, وهو العضو محمد الشواربي بهذه المناسبة: إن الأقباط ماخرجوا عن كونهم أبناء الوطن, ولذلك يجب أن يكونوا ضمن المدارس التي تعمل بالمديريات, ولا يكونوا خارجا عنها متي أرادوا الدخول فيها , وكان لتقبل المدارس الأميرية المصريين جميعا تعيين قضاة في المحاكم الأهلية من القبط بمثابة البدء في بناء مؤسسات الدولة علي قاعدة المواطنة الحقة, وعلي الأساس المدني العلماني السليم, وأن ينشيء أحد الأقباط وهو مرقص بك يوسف في طنطا عام 1865 مسجدا في بلدة جناح, وأن ينشيء قليني فهمي باشا مسجدا ضخما, وإلي جواره يبني كنيسة بعزبته بالمنيا رمزا للوحدة الوطنية, وأورد ليدر أحد الكتاب والباحثين الإنجليز شهادة أستاذ إنجليزي جامعي هو الأستاذ سايس, وكان زار مصر قبل فترة الاحتلال فقال : عندما عرفت مصر أول مرة في أيام ما قبل الاحتلال لم يكن موجودا هذا العداء الديني بين الأقباط والمسلمين, وكان الجميع سواسية مصريين, ويقول إنه هو نفسه قبل الاحتلال بسنة أو بسنتين رأي كنائس قبطية كان بينها المسلمون أنفسهم, كما رأي مسجدا بناه مالك قبطي من أثرياء القبط علي نفقته الخاصة, وأنه رأي التلاميذ المسلمين في المدارس العلمانية القبطية, والتلاميذ الأقباط في المدارس المماثلة والتي بينها المسلمون.. كان هذا في أول انتخابات لمجلس النواب أما في ثاني انتخابات للمجلس التي عقدت في عام 1870 فكان بين النواب الأقباط المنتخبين أيضا المعلم فرج عمدة دير مواس (من نواب أسيوط) , حنا أفندي يوسف عمدة نزلة الفلاحين (من نواب مديرية المنيا وبني مزار, وفي الانتخابات التالية المنعقدة في عام 1876 كان من بين النواب الأقباط المنتخبين كلا من حنا يوسف عمدة نزلة الفلاحين)(من نواب المنيا وبني مزار) ميخائيل فرج عمدة دير مواس (من نواب أسيوط) , عبد الشهيد بطرس (البلينا من نواب جرجا).
الأقباط والبرلمان في القرن العشرين
هذا هو حال الأقباط مع السلطة التشريعية في القرن التاسع عشر أما في بدايات القرن العشرين فمن الأمور المؤسفة والمثيرة للدهشة, والتي لا توصف بأقل من كونها غير لائقة أن يسير تمثيل الأقباط في البرلمان المصري في اتجاه متناقص فمع قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 بدأت الحياة الحزبية تتخذ شكلا جديدا حيث تم حل جميع الأحزاب السياسية القائمة في البلاد بدءا من يناير عام 1953, ولم يعد ممكنا في هذا العهد (عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر) لأي قبطي يرشح نفسه للانتخابات أن ينجح مادامت لا توجد أحزاب سياسية ينتمي إليها, نتيجة لهذا لم ينجح في انتخابات مجلس الأمة التي عقدت عام 1957 قبطي واحد, وبناء عليه عمد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلي ابتكار أسلوب جديد لم يمارس من قبل في الحياة السياسية المصرية بشكل عام حتي يضمن به تواجد الأقباط في مجلسه النيابي, فقرر إداريا قفل وإغلاق عشر دوائر اختيرت بدقة وعناية فائقة , حيث التواجد القبطي في تلك الدوائر بشكل خاص محسوس وملحوظ, وذلك بأن قصر الترشيح علي فئة الأقباط وحدهم , وتركت هذه الدوائر للتنافس بين المرشحين الأقباط وحدهم , مع اشتراك كل الأهالي في تلك الدوائر الانتخابية سواء كانوا أقباط أو مسلمين في العملية الانتخابية.. غير أن هذا الأسلوب لم يقدر له النجاح في أي انتخابات برلمانية تمت بعد ذلك ومن ثم تقرر العدول تماما عن اتباع أسلوب إغلاق الدوائر في الانتخابات التالية في أعوام 1979,1976,1971,1968,1964, وعولج الأمر فيما بعد باتباع مبدأ دستوري جديد وهو منع رئيس الجمهورية سلطة تعيين عشرة أعضاء في المجلس النيابي, وروعي فيما بعد أن يكون المعينون غالبيتهم من الأقباط أو كلهم, وبدا الأمر وكأن الدولة لم تعط هذا المجتمع الفرصة الحقيقية لإبداء رأيه عن طريق المشاركة السياسية الحقيقية وباتباع الأسلوب الديموقراطي غير الملفق وبهذا التعيين أيضا بدا النظام الحاكم وكأنه يعترف بوجود درجة من الطائفية, وزاد من الأمر سوءا أن الوزارات التي تولاها المسيحيون طوال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كانت من الوزارات المهمشة وكان الاختيار في الأساس علي حسن سمعته وعلي تخصصه الدقيق في مادته, ونجم عن هذا النظام (أي نظام التعيين) تولد الشعور لدي قطاعات عريضة من الأقباط بأنهم بالفعل أقلية, عليهم إما أن يقبلوا أن يعاملوا بهذه الصفة في مختلف المجالات, وإما أن يعترف بهم كمواطنين لاكرعايا فيعاملون كبقية المواطنين, ولذلك فإن غيابهم عن كثير من المناصب القيادية الرئيسية في أجهزة الإدارة أو في مقاعد المجالس النيابية والشعبية- رغم مايراه بعضهم من كفاءات بين صفوفهم – أدي بهم إلي الاعتقاد بأن المجتمع لا ينصفهم لا كأقلية (أي بمراعاة التمثيل الطائفي) ولا كمواطنين (أي بمراعاة مبدأ الكفاءة), ولعل هذا الشعوري كان الدافع الأساسي وراء هجرة عدد كبير من أقباط مصر إلي الخارج.
* التعددية الحزبية في عهد السادات:
يأتي بعد هذا عهد الرئيس المؤمن !! محمد أنور السادات, وهو رئيس مسلم لدولة مسلمة!!- علي تعبيره- ليعلن عودة نظام التعددية الحزبية من جديد في نوفمبر عام 1976 وليعيد معه صياغة المجتمع المصري والنظام بشكل عام في اتجاه مغاير تماما عما كان من قبل, ولكنه كان الأكثر انسجاما واتساقا مع امتداد حكم المؤسسة العسكرية من جانب ومع تكوينه الفكري ومزاجه الشخصي من جانب آخر.
وهو التكوين الذي جمع بين التنظيم الأوتوقراطي , والتماس الولاء الديني مقرونا بالردع والاعتماد علي القوي العالمية, ولاشك أن هذا المزيج المركب علي نحو يدعو إلي التأمل قد حمل في طياته نتيجتين متضادتين فإن استخدام العقيدة الدينية التي يجسدها الإخوان المسلمون- علي سبيل المثال- هو سلاح ذو حدين , يمكن أن يفيد مرحليا وبشكل مؤقت, ولكنه علي المدي الطويل لابد وأن ينقلب علي الذين ساندوه لسبب بسيط , وهو أن أصحاب العقائد الدينية لابذوبون أبدا في أية أيديولوجية أخري.
* مؤشرات التجربة المعاصرة
الآن وفي ضوء التجربة السياسية القائمة في مصر من خلال مجموعة من الأحزاب الجديدة والمتنوعة التي تتعامل عبر برامج وأيديولوجيات مختلفة وهياكل تنظيمية مخصصة لهيئاتها ربما, نراها لأول مرة في تاريخ مصر يحق لنا أن نسجل بعض المؤشرات الحيوية فيما يتعلق بمسألة الوحدة الوطنية وأوضاع الأقباط في الحياة السياسية اليوم أهمها: لقد أثبتت التجربة, وبالثمن الفادح وبكثير من الخسائر علي جميع المستويات التي مرت بها البلاد في عهد الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات أن التعامل مع الجهات والهيئات والقطاعات الدينية المتشددة- سواء كانت إسلامية أو قبطية- لم يقدر لها النجاح, وأنه يتعين التعامل معها حسب واقع حجمها وقدرها الحقيقي بعيدا عن أية مزايدات بالشعارات الدينية مثل شعار الإسلام هو الحل
ثانيا: إذا كان الأقباط قد لعبوا دورهم التقليدي السلبي وقت أنظمة الحكم المختلفة في العهود السابقة منذ إعلان النظام الجمهوري في مصر بعد ثورة 23 يوليو عام 1952 إن كان هذا قد حدث طواعية أو قهرا فإن تغيير هذا المناخ في ظل الظروف التي تعيشها بلادنا في الوقت الحالي الجديد يمكن أن ينبأ بحدوث تغييرات في موقف الأقباط تجاه الحياة السياسية ونحن جميعا بدأنا نلاحظ بوضوح شديد خروج الأقباط من عزلتهم السياسية كما أصبح مقررا أن تعود الكنيسة القبطية حاليا إلي سابق عهدها في عدم التدخل في النشاط والممارسات السياسية علي أن يسمح لمن يشاء من أفرادها أن يلعب دورا سياسيا علي عاتقه عن طريق الأجهزة الشعبية أو الرسمية أو الحزبية المعلنة, وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات الدينية الإسلامية فعليها أن تقوم بتفعيل نفس الدور الإيجابي في فصل الدين عن السياسة أما الجامعات الدينية الإسلامية المتطرفة فيتم علي الفور إقصاؤها واستبعادها أولا بأول حال ظهور بوادر أي انتعاش حقيقي لها علي الساحة العامة, والسعي الدائم إلي أن يتبدل هذا النشاط القائم بحوار فكري حضاري ثقافي مشترك يجلي الحقائق وينشطها لتنطلق أمام العامة والبسطاء , في ذات الوقت علي أسس وآليات وحدة الروابط الوطنية القائمة بين أفراد الشعب المصري مسلمين ومسيحيين بكافة طوائفه.
المراجع
* المجمع القبطي في مصر في القرن 19 – رياض سوريال.
* الأقباط في القرن العشرين- رمزي تادرس.
* أقباط القرن العشرين – ملاك لوقا.
* الأقباط النشأة والصراع من القرن الأول الميلادي إلي القرن العشرين -ملاك لوقا.
* الأقباط في الحياة السياسية المصرية – دكتورة سميرة بحر – .1984
* وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها المعاصر – الجزء الأول- الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني.
* الأحزاب المصرية قبل ثورة 1952 – دكتور يونان لبيب رزق.
* المشاركة الوطنية للأقباط في العصر الحديث – أمير نصر.