يردد البعض من غير المتخصصين أسطورتين الأولي أن هناك تزايدا في عدد المهاجرين الأقباط خاصة بعد ثورة 25 يناير, والمدهش أن أحد المحرضين علي هذا الرأي روج بأن العدد فاق المائة ألف قبطي!! أما الأسطورة الثانية فهي أن هناك نزوحا من الأقباط نحو السلبية ومقاطعة المراحل التالية من الانتخابات خاصة بعد مذبحة ماسبيرو.. يليها الصعود السياسي للتيارات الدينية في المرحلة الأولي من الانتخابات البرلمانية. ورغم أننا لا ننكر الذعر الذي أصاب البعض نتيجة هذا الصعود وتفكير البعض فعليا في الهجرة تخوفا من قدوم الحكم الديني إلا أن الصورة ليست بتلك القتامة.. فالآباء الأساقفة والكهنة المستنيرون قاموا بتهدئة النفوس الخائفة والتي أصابها الإحباط بعدما حدث.
تستمد هذه الآراء دون وعي وبشكل سطحي من بعض الأصوات المحسوبة علي بعض الجماعات الطائفية التي تعمل تحت غطاء حقوق الإنسان وتتناثر هنا وهناك في بعض الفضائيات التي علي شاكلتها.
حقائق وأرقام
إذا توقفنا أمام أرقام وإحصائيات الهجرة في عامي 2010, 2011 (وفق إحصائيات مصادر دبلوماسية مطلعة في سفارات الولايات المتحدة الأمريكية, كندا, أستراليا, فرنسا, بريطانيا, إيطاليا) سنجد أن هناك 6411 مصريا هاجروا إلي تلك الدول عام 2010, وفي عام 2011 لم يحصل علي حق الهجرة لتلك الدول حتي نهاية أكتوبر إلا 3804 مصريين, أي أن أرقام الهجرة انخفضت من 2010 إلي 2011 بنسبة 59%, علما بأن تلك الأرقام خاصة بالمواطنين المصريين بغض النظر عن ديانتهم.
ومن الأمور غير المنطقية أن يردد البعض عن جهل أو عن عمد أن عدد المهاجرين من المواطنين المصريين الأقباط يقارب المائة ألف إلي الولايات المتحدة فقط علما بأنه كما صرحت ذات المصادر بأن الهجرة العشوائية الأمريكية (القرعة), تقبل فيها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية خمسين ألف مهاجر من جميع أنحاء العالم!!
ووفق تصريحات مصادر بالجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (جريدة الأهرام 8-1-2011) بأن عدد المهاجرين المصريين في الغرب يقارب المليون مهاجر. وإذا عرفنا أن الهجرات المصرية للغرب بدأت بعد ثورة يوليو 1952, أي أنه طوال 60 عاما كانت الهجره بمعدل (16666 سنويا) وإذا افترضنا أن المهاجرين الأقباط منهم يشكلون علي أعلي تقدير 50%, فإن معدل هجرتهم تكون (8333 سنويا), علما بأن أعلي معدلات للهجرة المصرية حدثت ما بين 1960, 1961, وفق تصريحات وزير الداخلية الأسبق الراحل شعراوي جمعة, وأعزي جمعة ذلك إلي تأميم ومصادرة ممتلكات رجال الأعمال وكبار الملاك, في حين حدثت هجرة معاكسة في السبعينيات والثمانينيات, ومن يراجع كتاب د. سامية سعيد (من يحكم مصر) سيجد أن معظم العائلات القبطية التي هاجرت من جراء قرارات التأميم عادت إلي الوطن وأسست مؤسسات اقتصادية مثل عائلات (عبدالنور, ساويرس, وأبادير وغيرهم).
الأقباط 31% من الثروة القومية:
وعلي ذكر عودة المال القبطي من المهجر بعد تطبيق السادات لسياسات الانفتاح الاقتصادي, قدر الباحث الثروة القبطية 22% من الثروة القومية عام 1996 راجع للباحث كتاب (الأقباط بين الحرمان الوطني والكنسي) – دار الأمين – القاهرة 1996 – تقديم مصطفي الفقي وإشراف سعد الدين إبراهيم, وبعد تحديث المعلومات بلغت 26.5% عام 2000, ووفق تقرير رفعته وزيرة القوي العاملة السابقة عائشة عبدالهادي لمنظمة العمل الدولية عام 2009 بلغت 31% من الثروة القومية.
هنا ووفق نظريات علم الاجتماع السياسي من المفترض أن تكون (المكانة -الثروة – السلطة) مثل المثلث المتساوي الأضلاع ولكن في حالة الأقباط الذين يشكلون 10% من السكان (وفق تصريح الرئيس السابق مبارك لصحيفة واشنطن بوست – يناير 2000, والمتفق مع إحصائية CIA World Fact Sheet) , كما تقدر ثرواتهم 31% في حين تقدر مكانتهم في النظام السياسي بأقل من 2% (في السلطات الثلاث), وهذا هو الخلل الذي يؤدي إلي تفعيل عوامل الحرمان النسبي للمواطنين المصريين الأقباط الذين شاركوا أشقاءهم المسلمين في الوطن كافة الحروب والثورات ولم يحصلوا علي نصيبهم العادل والمنصف من النظام السياسي مقابل تضحياتهم المعروفة, هذا الخلل لم يحدث مع الأقباط فحسب بل مع أقليات أخري مثل المواطنين المصريين النوبيين والمواطنين المصريين البدو, ناهيك عما يحدث عن المرأة المصرية في ذلك الاتجاه شبه الإقصائي, والمعروف علميا بعوامل الحرمان النسبي التي تجعل الفجوة تتسع بين ما قدموه للوطن وما يتطلعون إليهم كمواطنين مقابل ذلك الأمر الذي يؤدي إلي الاحتقان العرقي أو الثقافي أو الطائفي مما يدفع هذه الجماعات للصدام أحيانا من أجل الحصول علي حقوقهم.
40 عاما من العنف الطائفي (من الخانكة إلي الماريناب)
وإذا انتقلنا إلي عامل آخر يؤجج الحرمان النسبي للأقباط, العنف الطافي من 1972 وحتي 2011 من أحداث الخانكة وحتي أحداث الماريناب, سنجد أن إجمالي عدد القتلي والجرحي من عام 1972 وحتي 2010 من الأقباط (120 قتيلا و 705 جرحي أي بمعدل 4 قتلي و 21 جريحا سنويا), في حين نجد أن الضحايا في العشرة شهور المنصرمة من عام 2011 كالتالي 21 قتيلا تفجيرات القديسين , 7 أحداث إمبابة , 11 منشية ناصر, 2 نزلة رومان في أبي قرقاص, 2 بالفكرية بالمنيا, قتيل بالقطار بسمالوط, 27 في أحداث ماسبيرو, إضافة إلي 704 جريحا طوال الشهور العشرة) أي أنا لدينا 69 قتيلا و 704 جريحا بمعدل ما يقرب من 7 قتلي و70 جريحا شهريا, أي أن المعدلات الشهرية للضحايا في 2011 تفوق مرتين تقريبا المعدلات السنوية السابقة.
مع ملاحظة أن الفترة من 1972 إلي 1996 كانت مسئولية العنف الطائفي تقع علي جماعة مسلحة إسلامية مثل تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية, ولكن تلك الجماعات كانت تستهدف أولا الدولة ثانيا السياحة ثالثا الأقباط, وأرقام الضحايا تتحدث, فقدت الدولة علي يد تلك الجماعات المسلحة رئيسها السادات, ورئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب, إضافة إلي 123 ضابطا وجنديا من الشرطة, 98 مسلما مدنيا منهم المفكر فرج فوده, ولا ننسي اغتيال رئيس الوزراء الأسبق د.عاطف صدقي, ووزراء الداخلية السابقون: اللواء حسن أبوباشا, اللواء حسن الألفي, كما استهدفت هذه الجماعات السياحة وقتلت 104 سائحين وجرحت 142 سائحا من جنسيات مختلفة, في حين قتل علي يد تلك الجماعات في تلك الفترة 66 قتيلا قبطيا وجرح 311 جريحا. هنا كان الأقباط يتحملون ما يحدث من عنف تجاهم لإدراكهم أن الوطن هو المستهدف بالأساس, ولم يلاحظ خروج أي احتجاجات قبطية جماعية طائفية في تلك الفترة.
لكن منذ عام 1997 وحتي 2010 ورغم تراجع عدد الضحايا الأقباط إلا أن هذه الحوادث أصبح مسئولا عنها البعض من عامة أشقائهم المسلمين في الوطن, بعد أن تفككت جماعة العنف المسلح من جراء الضربات الأمنية أو المعتقلات أو المراجعات الفقهية, وهكذا شهدت تلك الفتره (1997-2010) نمو التعصب القاعدي وثقافة الكراهية المتبادلة من جراء بروز وعي يرتكز علي تكفير الآخر ونفيه من خلال خطاب ديني جهادي أو صليبي الأمر الذي أدي إلي نشاط مكثف لفيروس التفكك القومي في الجسد المصري, 70% من الحوادث كانت بسبب بناء الكنائس بترخيص أو دون ترخيص, وشاهدنا لأول مرة ظاهرة الرفض الجماعي من بعض التجمعات في القري للمنارة والصليب, وفي المقابل أدت هذه الفوبيا التعصبية ضد الصليب إلي رفع المسيحيين للصليب للمرة الأولي في تظاهراتهم الاحتجاجية الأمر, وما تبقي من حوادث 30% كانت بسبب التحول الديني, الأمر الذي كان المواطنين الأقباط فيه يغالون في الخطاب الطائفي لهذه الظاهرة حتي يتجاوزون العار الاجتماعي الناجم عن ذلك.
شبكات الأمان الاقتصادي والمدني
كل أحداث العنف السابقة لم تدفع الأقباط إلي الهجرة إلي الخارج (راجع أرقام الهجرة المذكورة سالفا في علاقاتها بأحداث العنف الطائفي 1972-2011) ولذلك نعتقد أن السبب الرئيسي لهجرة الأقباط يعود إلي التأميمات والمصادرة وسائر العوامل الاقتصادية أكثر من عوامل التميز الديني ضدهم, وهنا نؤكد أن التمييز الديني ضد الأقباط عقائديا يزيدهم إيمانا وارتباطا بالوطن, حيث إن لاهوت الأرض لديهم متقدم عن لاهوت الاستحقاقات من الحروب الصليبية وحتي حروب الجماعات الوهابية ضدهم, ربما يعود ذلك إلي ارتباط الأقباط بعقيدة الصليب وتحمل الألم, ولاهوت آخر يعتمد علي سيكون لكم في العالم ضيق ولكن ثقوا أنني قد غلبت العالم, أو الباب الضيق, فالأقباط يتمسكون بالأرض والوطن تاريخيا كلما أمعن مضطهدوهم في اضطهادهم أو في التمييز ضدهم, وذلك لارتباطهم بلاهوت الأرض والوطن فعلي سبيل المثال فالكنائس الثلاث (القبطية الأرثوذكسية, القبطية الكاثوليكة, القبطية الإنجيلية) يلاحظ أن الهوية الوطنية تسبق الهوية المذهبية فلم تسمي مثلا (الكنسية الأرثوذكسية في مصر), كل ذلك جعلهم أكثر تجذرا وارتباطا بالأرض وشكلوا شبكات أمان اقتصادي أكبر من مكانتهم العددية (31% من الثروه القومية لـ10% من السكان), ولا يتوقف الأمر فقط علي العوامل الاقتصادية حيث يشكل المجتمع المدني المسيحي 12% من إجمالي المؤسسات الاهلية (وفق إحصائيات وزارة التضامن الاجتماع 2005), كما تشكل المؤسسات التعليمية المسيحية 14% من إجمالي مدارس التعليم الخاص (وفق إحصائيات التربية والتعليم 2000), كما برزت في الفترة الأخيرة التوسع في بناء المستشفيات, وكل تلك المؤسسات المدنية تخدم أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس.
كما يلاحظ وفق تصريحات مصادر اقتصادية مطلعه أن تحويلات المصريين الأقباط من الخارج بلغت 3.2 مليار دولار سنويا من أصل 11.5 مليار دولار لإجمالي المصريين في الخارج في دلالة موضوعية علي أنهم في أحلك الظروف مرتبطين بالوطن.
الخروج بالكنيسة للوطن
يبقي أن نعرف أن الأقباط بعد ثورة 25 يناير خرجوا من خلف أسوار الكنيسة للمرة الأولي منذ عام 1952, حدث ذلك رغم معارضة الإكليروس الكنسي المتنفذ للثورة في بدايتها, وهذا متغير كيفي في ذهنية الإيمانية القبطية, والمتغير الكيفي الثاني هو متغير طبقي اجتماعي حيث كان قادة 1919 من الطبقات العليا خاصة من الأقباط, أما قادة ثورة 25 يناير من الأقباط هم من الطبقات الوسطي والوسطي الدنيا (راجع الحاله الاجتماعية للمعتقلين والجرحي والقتلي), أما المتغير الثالث والذي ينبيء بالخطر هو تحول جناح من الأقباط من التسامح إلي العنف (مثال قتل أهل فتاة مسيحية لزوجها المسلم في الأميرية 2007, وتكرر الحادث في أماكن أخري 4 مرات حتي عام 2011) وبشكل سافر وعلني!! إضافة للصدامات التي حدثت بين المتظاهرين الأقباط والشرطة في 2009 بالعمرانية, 2010 بنجع حمادي, 2011 بالقديسين بالإسكندرية, أو بماسبيرو.
كذلك ازدادت معدلات التصويت الانتخابي للأقباط بشكل ملحوظ في استفتاء الدستوري 19 مارس 2011, إننا أمام منعطف مهم وخطير الذي طرأ علي الأيديولوجية الانعزالية القبطية القديمة, فقد صاروا أكثر تجذرا في الوطن رافضين الهجرة الخارجية أو السماوية (الأخروية) خرجوا يبحثون بأنفسهم لأنفسهم عن المواطنة المفقودة في مزج عولمي ما بين الخارج والداخل (علي سبيل المثال رفض قادة اتحاد ماسبيرو أكثر من مره قرارات البابا شنوده الثالث سواء بفض الاعتصام أو أخيرا برفض قراره بعدم تدويل قضية أحداث ماسبيرو) وفي الحالتين أعرب الشباب الراديكالي القبطي عن احترامهم للبابا كقيادة روحية, في فصل موضوعي بين ما هو ديني وما هو مدني, ولكن الخشية كل الخشية أن يخرج الأقباط من أيديولوجية البحث عن المخلص السماوي إلي البحث عن المخلص المهجري, بمعني أنهم لن يهاجروا خارج الحدود بل يستدعون الخارج إلي داخل الحدود, إننا أمام تحول إيجابي محفوف بالمخاطر حيث من الممكن أن تفقد الجماعات القبطية الراديكالية ثقافة التسامح وينتقلون إلي ثقافة العنف بشكل ينبيء بالخطر في ظل الخوف الوجودي لأبناء الوطن بشكل عام وللأقباط بشكل خاص من الجماعات الوهابية السياسية التي هبطت الينا بعد 25 يناير مما وراء السياسية إلي الواقع المصري.
اللهم إني قد أبلغت…اللهم فاشهد