كان يوم الخمسين في العهد القديم عيدا من أهم الأعياد الدينية شأنا, ففيه يجري الاحتفال بمرور سبعة أسابيع علي عيد الفصح أو عيد العبور, ولذلك يسمي بـ عيد الأسابيع (الخروج34:22),(التثنية16:10, 16). وإذا كان مقررا أن العدد 7 هو من أعداد الكمال دينيا وكونيا, فإن تضعيف العدد 7سبع مرات, له دلالته الروحية والكونية, وكان ينبغي أن يقدم الناس فيه لله أبكار الحصاد من غلاتهم, تعبدا لله وشكرا وتمجيدا لأنه تعالي هو سيد الطبيعة الذي جمل الأرض بالنباتات, ولهذا يسمي أيضا بـعيد الحصاد (الخروج23:16), (24:22) وكذلك يسمي بـعيد الباكورة (العدد28:26).
جاء في سفر تثنية الاشتراع سبعة أسابيع تحسب لك من ابتداء المنجل في الزروع تبتدئ أن تحسب سبعة أسابيع, وتعمل عيد الأسابيع للرب إلهك علي قدر ما تسمح يدك أن تعطي, كما يباركك الرب إلهك, وتفرح أمام الرب إلهك أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك واللاوي الذي في أبوابك, والغريب واليتيم والأرملة الذين في وسطك في المكان الذي يختاره الرب إلهك ليحل فيه اسمه(التثنية16:9-11).
وجاء في سفر اللاويين سبعة أسابيع تامة تكون. إلي غد السبت السابع تحسبون خمسين يوما, ثم تقربون تقدمة جديدة للرب(اللاويين23:15, 16).
لهذا لم يكن صدفة أو اتفاقا أن يحل الروح القدس علي تلاميذ المسيح في يوم الخمسين لقيامته المجيدة من الموت, وهو في نفس الوقت عيد الخمسين لعيد الفصح أو العبور, عيد الأسابيع, وعيد الحصاد, ويوم الباكورة.
إن الله قصدا في اختيار المواعيد والأوقات. أفهل يكون معني هذا أن عيد الخمسين القديم حل محله عيد الخمسين الجديد؟ أو أن يوم الخمسين في العهد الجديد قد امتص عيد الخمسين القديم وحل محله كبديل عنه, باعتبار أن الخمسين القديم كان رمزا وإشارة لخمسين العهد الجديد, وأن خمسين العهد القديم كان في مفهومه الأصيل مجرد ظل للخيرات العتيدة التي أعلنت وتمت في العهد الجديد(كولوسي2:17), (العبرانيين 8:5), (10:1).
وإذن فعيد الخمسين في العهد الجديد هو(عيد الأسابيع) لعيد(الفصح الجديد) وهو (عيد القيامة) الذي عبر به المسيح مخلصنا, وقائد مسيرتنا, من الموت إلي الحياة, وعبر بنا من الموت الأبدي إلي الخلاص, ومن عبودية الجحيم إلي حرية مجد أولاد الله, وعبر بالقديسين المحتجزين في العالم السفلي إلي الفردوس الذي كان مغلقا في وجه الإنسان منذ أن طرد منه الإنسان بسبب خطيئته التي استحق بها الموت إلي الأبد, واقتبل الحكم الإلهي عليه بالنفي من حضرته والحرمان من شجرة الحياة لئلا يأكل منها فيحيا إلي الأبد(التكوين3:22-24).
وعيد الخمسين في العهد الجديد هو(عيد الحصاد), الحصاد للثمار الجديدة التي بذرها المسيح الرب في مدة وجوده علي الأرض إلي أن صعد إلي السماء…وعنها قال له المجد لتلاميذه هاأنذا أقول لكم ارفعوا أعينكم وانظروا إلي الحقول إنها قد ابيضت فعلا للحصاد(يوحنا4:35) ذلك أن عمل الفداء الذي أتمه المسيح بموته فاديا للبشر, وقال عنه قد أكمل (يوحنا 19:3),(17:4) هذا العمل العظيم الذي تحقق للجميع إنجازه ونجاحه, بقيامة المسيح الفادي منتصرا علي الموت, وعلي الجحيم…كان لابد في اليوم الخمسين منه أن يكون له عيد يسجل بدء الحصاد لثماره المباركة.
ومن هنا فقد بدأ بعيد الخمسين في العهد الجديد عصر جديد من عصور الكنيسة المسيحية, فيه تحصد الكنيسة ثمار عمل الفداء والكفارة الذي قام به المسيح الفادي. ومع أن الروح القدس أزلي لأنه هو الله-فهو الروح الأعظم وهو القدوس-ومع أن عمل الروح القدس مع الناس قديم بقدم وجود الإنسان علي الأرض, منذ أن كان يرف علي وجه المياه ليخلق من المياه كل حي(التكوين1:2), إلا أنه في يوم الخمسين بدأ عهد جديد لعمل الروح القدس, وهو عمل(الحصاد) لثمار عمل(الفداء والكفارة) الذي قام به المسيح, وقد أنبأ عنه السيد المسيح بقوله إن الروح القدس يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم(يوحنا 16:14)..فجميع المواهب والعطايا التي يمنحها الروح القدس في العهد الجديد في أسرار الكنيسة, قائمة علي استحقاقات المسيح الكفارية, أي أن الروح القدس في العهد الجديد يسكب مواهبه الخلاصية علي المؤمنين بالمسيح, هذه المواهب التي للروح القدس. ينقلها الروح القدس للمؤمنين من بحر الخلاص الذي تفجر في الصليب بموت المسيح الفادي, وهنا يظهر للمؤمنين تضامن الأقانيم الإلهية في عمل الخلاص…إن الروح القدس في العهد الجديد لايبدأ عمله ابتداء منفصلا عن أقنومي الآب والابن…وإنما يغترف من استحقاقات المسيح الكفارية التي حصل بها في موته علي حكم البراءة لمن يؤمنون به ويحتمون تحت لوائه…يغترف الروح القدس منها, ويعطي المؤمنين, وهو ينقل للمؤمنين هذه الاستحقاقات في قنوات روحية روحانية, وهذه القنوات التي ينقل بها الروح القدس من استحقاقات الخلاص الذي تفجر في الصليب, هي(أسرار الكنيسة السبعة) وهي: أسرار المعمودية, والمسحة المقدسة(الميرون), والتوبة, والتناول, ومسحة المرضي, والزيجة, والكهنوت…وما يتولد منها وعنها من مواهب روحية وخلاصية.
إذن عيد الخمسين في العهد الجديد هو عيد الحصاد لثمار الخلاص والفداء, ثم هو(عيد الباكورة) و(يوم الباكورة) لأنه به بدأت مرحلة جديدة من مراحل عمل الروح القدس, يظهر فيها حصاد عمل المسيح الكفاري, وكان لابد لهذا العمل أن يبدأ بتلاميذ المسيح وهم سدنة العهد الجديد, والكرامون الجدد الذين أسند إليهم صاحب الكرم كرمه بعد أن انتزع كرمه من أولئك الكرامين الأردياء من قادة اليهود وزعمائهم الذين توعدهم المسيح بأن يهلكهم شر هلاك لأنهم لم يعطوه الثمار في أوقاتها وإذ رأوه قالوا:هذا هو الوارث, فهلموا نقتله ونستول علي ميراثه, ثم أمسكوه وأخذوه إلي خارج الكرم وقتلوه(متي21:33-43), (مرقس12:1-9), (لو20:9-16), ولكنه قام من الموت ظافرا بهم منتصرا عليهم, فزال هيكلهم بالخراب, وعاصمتهم بالدمار عقابا علي كفرانهم به وتمردهم عليه وعلي الله الآب وتجديفهم علي الروح القدس.
وإذن فبيوم الخمسين تبدأ مرحلة جديدة لعمل الروح القدس قائمة علي عمل المسيح الكفاري…وبيوم الخمسين(باكورة) العمل الإلهي في العهد الجديد. وبه تبدأ الكنيسة المسيحية عملها, وبوصفها إسرائيل الجديد, صهيون الحديثة, أورشليم الحرة…إذ قد حلت محل إسرائيل القديم, وصهيون الأرضية وأورشليم المستعبدة…ولم يعد لكنيسة العهد القديم كيان قانوني إذ صارت بالتمرد علي المسيح الرب, غير ذات موضوع, وإنما كنيسة العهد الجديد هي التي صارت الوريث الشرعي لترث(الشعب المختار), وقد امتصت في جسمها وكيانها كل الكنوز المدفونة في العهد القديم, ولم يعرف شعب اليهود قيمتها ومعناها, هذه الكنوز قد تفتحت في المسيح, الذي سبي بموته وخلاصه سبيا كبيرا من قديسي العهد القديم, وأعطاهم عطاياه ومواهبه(مزمور67:18), (أفسس4:8), وقد نمت كنيسة العهد الجديد, وترعرعت وازدهرت, إذ حل الروح القدس علي كل بشر آمن بالمسيح واحتمي به, وهو ما أنبأ به الوحي الإلهي علي فم النبي يوئيل في القديم لا تخافي أيتها الأرض, ابتهجي وافرحي فإن الرب يعظم عمله.لاتخافي يا بهائم الصحراء فإن مراعي البرية تثبت, لأن الأشجار تحمل ثمرها, التينة والكرمة تعطيان قوتهما. وأنتم يا بني صهيون ابتهجوا وافرحوا بالرب إلهكم فإنه يعطيكم المطر المبكر علي حقه, وينزل عليكم مطرا مبكرا ومتأخرا في أول الوقت. فستمتلئ البيادر حنطة وتفيض حياض المعاصر خمرا وزيتا, وأعوض لكم عن السنين التي أكلها الجراد الغوغاء والطيار والقمص جيشي العظيم الذي أرسلته عليكم فتأكلون أكلا وتشبعون, وتسبحون اسم الرب إلهكم الذي صنع معكم العجائب, ولا يخزي شعبي إلي الأبد…وسيكون بعد ذلك أني أسكب روحي علي كل بشر, فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاما, ويري شبابكم رؤي, وعلي العبيد أيضا وعلي الإماء أسكب روحي في تلك الأيام…لأنها في جبل صهيون وفي أورشليم تكون النجاة. كما قال الرب وفي الباقين الذين يدعوهم الرب(يوئيل2:21-32) .انظر(أعمال الرسل2:16-21).
إذن حلول الروح القدس في يوم الخمسين كان حلقة جديدة, لكنها حلقة في سلسلة من حلقات سبقتها ومهدت لها, وكانت معروفة من قبل في خطة التدبير الإلهي, ولذلك تحدث عنها العهد القديم وأنبأ بها, كما أنبأ بها المسيح له المجد, ووعد تلاميذه بها.
قال الإنجيل المقدسوفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع وصاح قائلا:إن عطش أحد فليأت إلي ويشرب. من آمن بي فكما قال الكتاب ستجري من بطنه أنهار ماء حي وإنما قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به عتيدين أن ينالوه لأن الروح لم يكن قد أعطي بعد, إذ لم يكن يسوع بعد قد تمجد(يوحنا7:37-39).
وقال المسيح له المجدأقول لكم الحق: أنه خير لكم أن أنطلق لأنني إن لم أنطلق لن يأتيكم المعزي, ولكنني إن مضيت أرسله إليكم(يوحنا16:7).
وقال ومتي جاء المعزي الذي سأرسله أنه إليكم من عند أبي, روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فإنه سيشهد لي, وستشهدون أنتم أيضا(يوحنا 15:26).
وقال أيضاوأنا سأطلب إلي الآب فيعطيكم معزيا آخر ليقيم معكم إلي الأبد. ذاك هو روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولايعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه مقيم معكم وسيكون فيكم(يوحنا14:16, 17).
كذلك قالفإذا جاء المعزي وهو الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو الذي سيعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم(يوحنا14:26).
ثم قال لتلاميذه بعد قيامته المجيدة وقبيل مفارقته لهم بالجسد وصعوده إلي السماءوها أنذا أرسل إليكم ذلك الذي وعد به أبي فامكثوا في مدينة أورشليم إلي أن تلبسوا بقوة من الأعالي(لوقا24:49).
وقال سفر الأعمال..جميع الأمور التي ابتدأ يسوع أن يعملها ويعلم بها, إلي اليوم الذي ارتفع فيه من بعد أن أوصي بالروح القدس الرسل الذين اصطفاهم…وفيما هو يأكل معهم أوصاهم أن لايبرحوا من أورشليم بل عليهم أن ينتظروا فيها ما وعد به الآب وما سمعتموه مني, فإن يوحنا إنما عمد بالماء. وأما أنتم فستعمدون بروح القدس بعد أيام غير كثيرة…لكنكم ستنالون قوة متي حل الروح القدس عليكم, وتكونون لي شهودا في أورشليم وفي اليهودية كلها وفي السامرة وحتي أقاصي الأرض(أعمال الرسل1:1-8).
وقال الرسول القديس بطرس في حديثه إلي اليهود في يوم الخمسينفيسوع هذا…وإذ كان قد ارتفع بيمين الله وأخذ من الآب موعد الروح القدس سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه(أعمال2:32, 3).
من هذا كله نتبين أن حلول الروح القدس في يوم الخمسين كان تحقيقا لوعد المسيح له المجد الذي صرح به لتلاميذه, كما كان حلقة جديدة في سلسلة من حلقات عمل الروح القدس في الكنيسة منذ نشأة الخليقة, لكنها حلقة تقوم علي عمل المسيح الكفاري الذي تم بموته وقيامته من الموت, وبها بدأت الكنيسة عصرا جديدا هو عصر يبرز فيه عمل الروح القدس في تدبير الخلاص, وذلك بسكب مواهبه الخلاصية التي يغترفها من بحر الخلاص الذي تفجر في الصليب, وينقلها إلي المؤمنين بالمسيح في قنوات روحية روحانية هي أسرار الكنيسة السبعة, وما ينبع منها, ويتفرع عليها من مواهب وعطايا…
وفي هذا كله يظهر واضحا عمل الأقانيم الثلاثة متضامنا في تدبير الخلاص للمؤمنين القديسين…وكما يظهر تضامن الأقانيم الإلهية واشتراكها معا في سر التجسد, كذلك يظهر تضامن الأقانيم الإلهية واشتراكها معا في سر الفداء.
نعم, فإن الفداء سر, وما أعظمه من سر!
هو سر تولدت عنه أسرار الكنيسة وهي مواهب الروح القدس في العهد الجديد.