يرتدي القناع ويضع المساحيق علي وجهه… يخترع المقالب والنكات مع كل حركة يؤديها… لينتزع الضحك من القلوب… إنه البلياتشو صانع الضحكات.
في اللاتينية يسمي كلاون وتعني فنانا كوميديا يعتمد علي قدراته الشخصية وشكله الخارجي أكثر من اعتماده علي النص المكتوب, وفي العربية يسمي المهرج من التهريج أي الصخب الفارغ, وفي التراث الشعبي الأصيل تعني كلمة البلياتشو المحبظ وهو الرجل الذي يأتي بغير ما اعتاده العقلاء والأسوياء لإضحاك العقلاء والأسوياء فيجمعون له ما تجود به نفوسهم. والراجح أن كلمة البلياتشو جاءت من مقطعين الأول (الباليه) والآخر (شو) ليكون المعني عرض أو تقديم حركات تشبه البالية ولكن بشكل مضحك. وأيا كانت المسميات فكلها لشخص واحد لا هدف له سوي رسم الضحكات والبسمات علي وجوه الآخرين.
عرفت أوربا البلياتشو من خلال فن البانتوميم الذي يعتمد علي الحركات الصامتة, واشتهر شارلي شابلن بهذا الفن الذي أمتعنا به عبر أفلامه معتمدا علي الحركات السريعة الصامتة التي أضحكتنا جميعا. بعد الحرب العالمية الأولي حظي فن البلياتشو علي اهتمام بالغ في مجال الفنون خاصة فنون السيرك, وأصبح يدرس في معاهد وأكاديميات الفنون, وفي روسيا وصل فن البلياتشو إلي أعلي الدرجات, حيث أن مدير السيرك نفسه عادة ما يكون من البلياتشو وأشهرهم علي الإطلاق نيكوليني بلياتشو القرن العشرين, وقد تقلد منصب مدير سيرك موسكو المركزي وعند وفاته سار في جنازته أكثر من عشرة آلاف شخص يتقدمهم رئيس الوزراء وممثل لرئيس الجمهورية ووفود أجنبية من دول أوربا, وهناك رسائل دكتوراه في أكاديمية الفنون الروسية عن نيكوليني البلياتشو.
وقد عرفت مصر القديمة البلياتشو حيث ظهر محفورا علي معابد الفراعنة مثل معبد بني حسن ومعبد حورس بالمنيا وعرف باسم مضحك الملك ثم البهلوان وكان يمثل عنصرا أساسيا في حاشية البلاط الملكي حتي القرن الثامن عشر, وكان يقوم بدور مهم في نقل ما يدور من أحوال البلاد وأقوال الناس وهمومهم ويجسدها بشكل مضحك أمام الملك.
وكان يعتمد علي الملابس الفضفاضة غير المتلائمة في الألوان, إلي جانب قيامه بتلوين وجهه بأصباغ طبيعية مثل البنجر والفراولة, وكان يعتمد علي الغناء والرقص.
وهناك نوعان من البهلوان الأول يسمي الضاحك أو الباسم وهو الذي ينقل الأخبار السارة والمفرحة من الملك إلي الناس أو العكس, والآخر يسمي الباكي أو الحزين الذي ينقل الأخبار المحزنة والأحداث المؤلمة.
ففي عهد الخديو إسماعيل جسد البلياتشو معاناة المصريين من حفر قناة السويس, فدخل ذات يوم علي الخديوي يحمل علي كتفيه لفافة متربة من الخارج وقد ظهر عليه الإجهاد والتعب وذلك بحركات بهلوانية تجسد مدي معاناة الناس من الحفر ووفاة العديد منهم.
ثم ظهر البلياتشو في الأربعينيات علي يدي الفنان حسني الديب وأصبح يقدم في السيركات الخاصة مثل سيرك الحلو وعاكف معتمدا علي تقمص الشخصيات وتقليدها وأيضا علي الرقص والغناء.
وهناك شخصيات ارتبطت بهذا الفن ولكن بعيدا عن الملابس والألوان المميزة له, حيث ظهر الفنان شكوكو الذي ارتبط بالأراجوز في تقديم هذا الفن.
ومع افتتاح مدرسة فنون السيرك عام 1962 أصبح البلياتشو فنا يدرس واستقدم له الخبراء والمدربون من الخارج… فمن روسيا لانكو وبومن, ومن ألمانيا هارد.
دخل البلياتشو السيرك القومي في منتصف الستينيات علي أيدي الفنانين حسني خضر وأحمد البرنس ومحمد سعد… وتم إرسال البعثات للخارج لتعليم هذا الفن فتم إرسال رفعت عبد الرحمن إلي هولندة حيث درس هذا الفن وتتلمذ أيضا علي يد المدرب الألماني هارد. وقد عرف عبد الرحمن في بدايته كلاعب بيسكليت ثم اتجه إلي فن البلياتشو فتقمص الشخصيات التي تسعد الأطفال وقدم فن البانتوميم في السيركات الخاصة والبرامج التليفزيونية ثم قدمه في السيرك القومي وحصل علي دبلومة فن التهريج من ألمانيا وأصبح يمثل أشهر مهرجي السيرك القومي إلي وقتنا هذا, وعرف باسم مشمش وظهرت معه شخصية بندق وجسدها الفنان سيد الكيلاني لاعب البيسكليت أيضا.
وأصبح الفنانان مشمش وبندق علي مستوي عالمي يقدمان عروضهما في دول عديدة وقد رشحتهما الدولة للعمل في دبي عام 1999 وفازا بالمركز الأول علي تسع عشرة دولة مشاركة.
وبالنسبة للسينما شارك البلياتشو في العديد من الأفلام السينمائية والمسرحية والبرامج التليفزيونية. فنجد شخصية البلياتشو الذي جسده إسماعيل ياسين في أفلامه مشتهرا بعبارته أنا بلياتشو… طب خد خد خد معتمدا علي الرقص والغناء.
كما شارك البلياتشو السندريلا سعاد حسني في فيلم المتوحشة كما استحوذت شخصية البلياتشو صاحب الفن المجنون علي عقول الأدباء, فكتب الراحل الكبير يوسف إدريس مسرحية (البهلوان) التي تجسد حياة مسئول كبير نهارا وليلا حيث يقوم بدور البلياتشو هروبا من الواقع وعلاجا لمشاكل المجتمع وتم عرضها في أكثر من دولة ونالت جوائز عديدة.
كما أن هدف البلياتشو في المقام الأول انتزاع الضحكات من قلوب الأطفال وجذب انتباههم لذلك يشارك في علاج حالات كثير من الأطفال وبخاصة الأطفال المتوحدين والانطوائيين.
البلياتشو الذي يعتمد علي خفة الظل ويجدد نفسه بما يتلاءم مع ظروف وأحوال المجتمع وتغيراته ويحاول اختيار موضوعات تهم المواطن وبخاصة البسطاء فهي تعبر عن همومه وأحيانا قد ينتهك النظام الاجتماعي ويجعلنا نضحك عليه.
البلياتشو الموظف في السيرك الذي يعمل مقابل أجر لا يكفي أسرته يضع الضحكات رغم هموم قلبه وأحزانه ولا يستطيع أحد أن يعبر عنها مثله… ويظل البلياتشو هو الضاحك رغم أوجاعه.