احتفلت أسرة وطنيالأسبوع الماضي باليوبيل الذهبي -مناسبة مرور خمسين عاما علي صدورها-ولعل قارئ وطني لا يفاجأ بهذا الاحتفال لأنه عاش منذ بدء هذا العام علي صفحات الجريدة جولات أسبوعية في أرشيفها استرجعت نماذج مما نشر فيها عبر سنوات عمرها ومسيرتها في ظل قيادة مؤسسها الأستاذ أنطون سيدهم,فكانت تلك الجولات بمثابة شريط الذكريات لما عاشته مصر والعالم من أحداث في شتي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والرياضية والفنية,هذا علاوة علي الدراسات التحليلية التي قدمتها الجريدة للقارئ حول حصاد ملفات وقضايا مهمة تصدت لها في مراحل مختلفة من عمرها,وعلي رأسها قضايا المرأة والشباب والأطفال والأقباط والحريات وغيرها وغيرها,حتي كانت قضية الساعة التي تتصدر أجندة العمل الوطني وهي المواطنة.
كما كانت هذه الجولات الأرشيفية شاهدا شيقا علي تطور أساليب التحرير والإخراج الصحفي والقفزات الملموسة في الشكل والطباعة عبر نصف قرن من الزمان,وبقدر ما حركته من شجن وعواطف داخل نفوس الأجيال الأقدم من الكوادر التحريرية-والإخراجية بما استدعته من الذاكرة عن أساليب وحرف وتقنيات تحرير وطباعة الكلمة والعنوان والصورة,بقدر ما خلفته من فخر وارتياح لأنوطنيكانت دوما مسايرة للتطورات المهنية والتقنية التي تتوافق مع تقدم العصر ودخول الكمبيوتر والإنترنت وأنظمة الجرافيك والفوتوشوب والألوان إلي المادة الصحفية سواء الإعلامية أو الإعلانية.
تشرف احتفال أسرةوطنيبحضور كوكبة من الشخصيات العامة والمتصلة بالعمل الصحفي والمرتبطة بالجريدة منذ الرعيل الأول الذي عاصر بداياتها عام1958 ومرورا علي أجيال تتابعت عليها ووصولا إلي أسرة تحريرها الحالية…وكان علي رأس الحضور تشريفا للاحتفال صاحب القداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث الذي له مكانة عظيمة مزدوجة لديوطني:أولا لأنه رأس الكنيسة القبطية وراعيها الذي يمتلك رصيدا ضخما من المحبة والتقدير في قلوب المصريين,وثانيا لأنه الصحفي صاحب الفكر والقلم المتميزين والذي يحتل صدارة كتاب الجريدة في عدد مرات النشر علي الإطلاق.وهذه المعايير أيضا تنطبق علي صاحب النيافة الأنبا موسي أسقف عام الشباب الذي لسنوات طويلة أثري خلالهاوطنيبالكتابات الرائعة في شتي المجالات علاوة علي محبته ومكانته الرفيعة لدي قطاعات كبيرة من المثقفين والسياسيين علي اختلاف تياراتهم الفكرية مسلمين ومسيحيين,بالغين وشبابا.
أيضا تشرف الاحتفال بتمثيل المجلس الأعلي للصحافة ونقابة الصحفيين وأسرة مؤسسة الأهرام التي ارتبطت بهاوطنيدوما بعلاقات متينة وحميمة,علاوة علي باقة من المفكرين والكتاب الذين أثروا صفحات الجريدة بفكرهم وكتاباتهم والذين تفضلوا بتدعيم رسالتها طوال نصف قرن.
لم تكن خدمةوطنيالصحفية منذ نشأتها مقصورة علي الخبر والحدث,فعلي أهمية ذلك عنيت الجريدة برسالة إعلامية تنويرية متعددة الجوانب,فاهتمت برصد هموم المجتمع ومشكلاته وبلورة رؤية نحو كيفية تجاوزها,كما اهتمت بالإرتقاء بمستوي وعي المواطن ومعايشته أحوال بلده وحثه علي التقدم للمشاركة في إدارة شئونها,فضلا عن الارتفاع بمستوي تذوقه الأدبي والفني بتقديم المواد الفكرية والنقدية والمتابعات لما يدور في الدوائر الثقافية والفنية….استمر ذلك نحو ربع قرن أو ما يقدر بنصف عمر الجريدة منذ نشأتها وحتي الآن,كانت خلاله وطني جريدة مصرية وطنية لا تختلف عن سائر الصحف المصرية إلا في جزئية تقديم الخطاب الديني المسيحي وتغطية أخبار الكنيسة المصرية,وكانت في ذلك تملأ فراغا في هذا الإطار في الصحافة المصرية وتتوازن مع ما يقدم في الصحافة المصرية للقارئ المسلم من خطاب ديني إسلامي وتغطيات لأخبار مؤسسة الأزهر…إذن لم تكنوطني صحيفة دينية بل اشتملت صفحاتها علي سائر الأبواب الصحفية مثلها مثل أية صحيفة مصرية.
لكن مع نهاية سبعينيات القرن الماضي شهدت مصر أحداثا مقلقة لم تكن مألوفة من صعود تيارات دينية متطرفة وظهور خطاب ديني يفرز بين مسلمي مصر وأقباطها ويدعو للتكفير والعنف والتفرقة بين المصريين بسبب هويتهم الدينية…واعتبر الكثيرون في البداية أن تلك الأحداث الغريبة علي مصر أحداث طارئة سرعان ما تزول لتعود مصر وطنا لجميع المصريين كما كانت دوما,لكن للأسف توالت وتتابعت أحداث العنف وتطورت إلي الإرهاب الفكري والفعلي الذي هدد الوحدة الوطنية ونال من السلام والاستقرار الاجتماعي,كما ظهرت آثاره في التعليم والإعلام….عند ذلك تحولت رسالةوطني إلي التصدي لتلك الهجمة المدمرة التي تعرضت لها مصر,وعنيت الجريدة بتعقب التعصب والتطرف والإرهاب لكشفه وفضحه ومحاصرته,وفتحت في ذلك السياق ملف هموم الأقباطومعاناتهم مع التعصب والفرز واختلال ميزان المساواة بينهم وبين إخوتهم المسلمين.
ذلك كان تعديل مسار الجريدة خلال ربع القرن الثاني من عمرها,فعلته بروح وطنية تتطلع إلي رأب الصدع في العلاقة بين المصريين,فمهما كانت جسامة أحداث العنف والإرهاب التي حلت علي مصر والتي ذهبت الجريدة لرصدها وتغطية ملابساتها,ومهما كانت حدة المأساة ومعاناة الضحايا في كل منها,ومهما كانت درجة الألم الذي خلفته في نفوس الكثيرين,كانتوطنيهناك تبحث عن الأمل في تجاوز الأزمة,تفتش عن الطبيعة المصرية-الأصيلة في تلاحم المسلمين مع المسيحيين,وتسلط الأضواء علي أن تلك الطبيعة حتما ستنتصر في النهاية…لم تعتبروطني أبدا أن محنة الأحداث الطائفية ترقي إلي مرتبة المواجهة الشاملة بين مسلمي مصر ومسيحييها بل دعت إلي تكاتف جميع المصريين الطيبين معا-وهم الغالبية العظمي من شعب مصر-لعزل المتعصبين وضعاف النفوس بعيدا عن الساحة الوطنية.
هذه كانت ولا تزال رسالةوطنيتعكسها خدمتها الصحفية كما تعكسها أنشطتها التنموية في وسط الشباب المصري والمتمثلة في منبربرلمان شباب وطنيومنبر مركز التكوين الصحفي وتنمية الكوادر البشريةهذان المنبران أثيتنا أن شباب مصر بخير وأنه برئ من تهم اللامبالاة والتعصب والعجز التي يتهم بها وأن المجتمع مدين للشباب بالفرصة وبالتشجيع علي الاختلاط الطبيعي بلا حساسيات وبمنحه الثقة والمسئولية في إدارة شئونه والتعبير عن نفسه…تلك هي المغامرة-ولا أقول المخاطرة-التي دخلتها وطني مع الشباب وأثمرت نتائج إيجابية مذهلة حول درجة وعي ونضج الشباب وحماسهم للعمل وحبهم واحترامهم لبعضهم البعض-فتيات وفتيان,مسلمين ومسيحيين.
احتفال اليوبيل الذهبي كان مناسبة جميلة للوفاء حيث شهد تكريموطني لكوكبة من القيادات والكوادر وأصحاب الفكر والقلم الذين أثروا الجريدة عبر نصف قرن,فكانتوطني بمثابة الشجرة العريقة التي تمتد جذورها في تربة خصبة,فروعها تمتد نحو السماء,تسقط عنها أوراق عزيزة نذكرها ونكرمها,وتزدهر أغصانها بأوراق خضراء عفية,وتنبت فيها أوراق جديدة كل ربيع…هذه المنظومة الجميلة هي التي ستحملوطني مع أوراق لم تنبت بعد إلي آفاق المستقبل نحو مراحل متتابعة متجددة من العمل الصحفي بكل ما تتطلبه من طموح وخيال وإبداع.