وطني يا أبويا.. خنقوا شروق الشمس في عينه.. قتلوا الأمل الطارح بكره علي خدينه.. زرعوا جميع أنواع الشوك جوه جبينه, قتلوا ورود الحرية..نعم إنها الورود التي تنبت في أرض الصعاب, وتتفتح في ميادين مصر, بدلوا عبيرها بغاز يخنق المستقبل في الصدور, دموعها صارت دما نازفا من العيون, ورود التحرير, لم ينفصل باب افتح قلبك عن الميدان يوما واحدا كما لم ينفصل عن ماسبيرو تماما, بين المصابين شققت الدروب لأسمع حكاياتهم, شبابا صغيرا وصبية تحت سن العشرين, أحدهم ملقي علي ظهره, حوله مجموعة تحاول إفاقته, فالميدان يعجع بالمتظاهرين والوصول للمستشفي الميداني صعب جدا, حملوه علي ظهورهم, ألقوا به وسط الصينية, تشنجات في الفك تلاحقه, يحاول جاهدا التقاط أنفاسه دون جدوي, أبعدوني قائلين: مش وقت تصوير, ابتعدت ما إن سرت خطوات معدودة حتي وجدت حالة أخري وثالثة ورابعة, ومئات الحالات تتكرر, ذلك بخلاف المصابين بالخرطوش والرصاص المطاطي, والاختناقات الشديدة التي لا يفلح معها سوي النقل للمستشفي علي أجهزة التنفس.
زوار للفرجة, وآخرون للمشاركة, وبعضهم للمراقبة وتحسس ما هو آت, وآخرون للشماتة في الثوار, كل الأطياف موجودة, كل الأعمار موجودة, قابلت امرأة عجوز, سألتها ألم تخشي الاختناق أو الإصابة فسنك لا يسمح بنزول الميدان؟ أجابتني في صمود: الشباب إلي بيموتوا دول مسئوليتنا لو مشينا تفتكري ممكن يجري إيه فيهم أنا مش هامشي إلا لما يجي مجلس رئاسي مدني, سألت أحد الشباب بعد إفاقته:
عندك كام سنة؟
18 سنة.
ليه دخلت منطقة إطلاق الغاز الكثيف؟
علشان مصر, إخوتنا ماتوا وراحت عيونهم, تفتكري في أغلي من نور العيون.
ترد بإيه علي إللي بيقولوا إن بينكم بلطجية وقابضين؟
قولي لي إنتي تاخدي كام وتبيعي نور عيونك؟؟ تاخدي كام ويجي لك نزيف في الرئة؟
تاخدي كام وتبيعي عمرك وعمر أولاك؟!!
تركته وتحولت إلي رجل في الأربعين من عمره عينه وأنفه سيل من الدموع والإفرازات بسبب إطلاق الغاز, رفع يديه وقال لي لو واحد عنده عربية بحمار ابنه مرض ولازم علشان يعالجه يبيع الحمار هايعمل إيه؟؟ أجبته هيبع الحمار, فرد قائلا: إحنا قررنا نبيع الحمار. في إشارة إلي أننا أصبحنا علي استعداد للضحية بكل ما هو ضروري وغال من أجل هذا الوطن.
من العسير أن نجد مساحة لنشر كلام كل من انفتحت قلوبهم لنا في الميدان لكننا تنشر اليوم نماذج منها لعلها تمس قلوب من يصفونهم بالبلطجية والقبيضة والممولين, وهذا آخر يقول: أنا صحفي ومش هاقول اسمي علشان ماحدش يفتكر إني عايزة شهرة, هاقول جملة واحدة بس, أنا مش بلطجي وفي الميدان.
آخر علي مقربة من النقطة الساخنة في شارع محمد محمود يقول: الله ينتقم لشهداء ماسبيرو الذين ظلمهم المجلس العسكري.
فتاة صغيرة صادفتني لا تتعدي الخامسة عشر من عمرها, ابنة ناشط سياسي, فوجئت بها تجري ذهابا وإيابا سألتها: ماذا تفعلين هنا؟؟ أجابت: العلاج والبطاطين.. لازم الشباب يلاقوا دوا وغطا, شعرت أن مصر تولد من جديد علي أيادي هؤلاء الصغار الذين لا يحركهم إلا شعورهم بالواجب نحن من مورس عليهم أبشع أنواع العنف من قوات الأمن, حتي إن بعض الجنود من الأمن المركزي ألقوا بالقتلي من المتظاهرين فوق القمامة, قصص وصور كثيرة الكل تابعها عبر الفضائيات بعجز اللسان أن يصفها ويعجز القلب أن يشفي من آلامها, ويعجز القلم أن يسطرها.
وتساءلت: لماذا يدفع الشباب وحده ثمن الثورة؟؟ لماذا دائما يبحث المخطئون عن طرف ثالث يحملونه المسئولية ويسمونه الأيدي الخفية والعناصر الخارجية والبلطجية أو الفلول, لماذا ندمر ثروتنا الحقيقية – طاقة شبابنا – بدلا من استغلالها, لماذا لا نعي الدروس السابقة فلا نكرر أخطاء الماضي, سمعت إحدي القصص في التحرير عن شاب وجد فتاة يبدو من مظهرها أنها تنتمي للطبقة المتعلمة الغنية فقال لها: اخرجي من هنا – شارع محمد محمود – رفضت الشابة.. فأخذ يرجوها, سألته: لماذا تصر علي خروجي؟, فقال لها: أنا ممكن أموت يمكن موتي مالوش تأثير لأني مش متعلم لكن إللي زيك لازم يبقي بره ويعيش علشان مصر محتاجة الواعين يشيلوا العمر إللي جاي منها ويعدوا بيها لبر الأمان, استطاع ببساطته أن يبكي الجميع أي حب هذا الذي يدفع بشاب أن يدفع عمره ثمنا للوطن ويمنع الموت راجيا من يظن أنهم أكثر فائدة لمصر منه!! هذا هو الشباب الذي وصوفه بالبلطجي والقابض والخاين وإللي خرب مصر, إنه يفكر حتي بعد موته في وطنه.
ونظرت في وجوه المعتصمين فلم أجد بينهم وجها مميزا, وتذكرت طبيب الأسنان أحمد الذي ضحي بإحدي عينيه يوم 29 يناير والأخري يوم 19 نوفمبر, ولم يكن مشهورا ولا سياسيا محنكا, ولا ممولا, فقط مصري يري الوطن ببصيرته قبل البصر ففقده راضيا غير نادم, وتساءلت في نفسي: لماذا لم أسمع اسما واحدا من الأسماء الشهيرة التي قفزت علي الثورة أو حتي خرجت من رحمها أو حتي شاركت فيها, وقع شهيدا أو حتي جريحا, أو فقد من العين بصرها, دائما الشهداء يشتهرون بعد أن يدفعون دماءهم عربونا للخلاص من العبودية, دائما الشهداء ليسوا معروفين ولا بمشهورين, ولكنهم أبطال يتقدمون ليدفعوا الثمن ثم يخرج المشاهير ليقفوا دقيقة حدادا عليهم ويتصارعون, كل ينسب انتماء الشهيد لفصيله ويتاجر بدمه.