لعله من أصعب الأمور علي النفس المشاركة في مواقف الوداع, وربما أصعبها هو توديع الأحباء إلي مثواهم الأخير. جميعنا نقوم بهذا الواجب رغم صعوبته لأنه لازم وضروري. أما بالنسبة للخادم الأمين بانوب شحاتة وزوجته الفاضلة مدام راندا, فالقيام بمثل هذه الواجبات كان جزءا طبيعيا من حياتهم عملا بقول الكتاب المقدس ##فرحا مع الفرحين وبكاء مع الباكين##. فلا أظن أنهما أهملا القيام بهذا الواجب يوما حتي بالنسبة لغير المقربين لهم. وبالأمس ذهبنا لتوديع صديق عزيز, ونظرت إلي جمهور المعزين الذين امتلأت بهم قاعة الكنيسة, وعادة كنت أري بانوب شحاتة ضمن الحاضرين, ولكن هذه المرة تختلف, لأننا أتينا لتوديع بانوب شحاتة نفسه.
كانت تربطني بالرجل صلة حب قوية, كنت أجد متعة في الجلوس معه وتبادل الحديث. كانت كلماته دائما تحمل حكمة عميقة وعلما غزيرا ورأيا راجحا. وكان أيضا لذيذ المعشر بشوشا دائم الابتسام, يتذوق الفكاهة ويجيد روايتها, ويضحك مع الناس وليس علي الناس. وأذكر أنني تقابلت معه ومع زوجته مرة وكانا قد احتفلا حديثا بعيد زواجهما الخمسين. ووجدتها فرصة لمداعبتهما فقلت له ##خمسين سنة زواج!! أنت تستحق الجنة علي هذا…## إبتسم ولم ينطق بكلمة. ولكن السيدة راندا أجابت ##لماذا هو وحده الذي يستحق الجنة؟ أنا كمان…## فبسرعة أجبت ##بالتأكيد أنت أيضا##. وطبعا كانت هذه مجرد دعابة من نوع الفكاهات التي يتبادلها المتزوجون أحيانا. ولكن في الحقيقة لم أعرف زوجين كانا أسعد في زواجهما أكثر من بانوب وراندا. عاشا معا يساند الواحد الآخر في رحلة جهاد طويلة دامت نحو 65 عاما. وعندما داهم المرض بانوب وقع العبء كله علي أكتاف راندا التي تحملته بكل حب وصبر وشجاعة ولم تشكو أو تتذمر يوما.
قصة حياة بانوب شحاتة طويلة ومثيرة تشبه كثيرا حياة العصاميين الذين صنعوا أنفسهم بقوة الله. وأرجو أن يأتي وقت تتاح لنا أن نقرأ قصته كاملة في شكل كتاب . ولكن لغرض هذا المقال سأسجل بعض اللقطات السريعة وهي مستقاة بتصرف من النشرة التي أصدرتها الأسرة عن حياته باللغة الإنجليزية.
ولد بانوب شحاتة في 52 يوليو _29_ من أسرة فقيرة في مدينة المنصورة شمال مصر, دخل المدرسة واستمر فيها حتي سن الحادية عشر وقبل امتحان الشهادة الابتدائية لم يتمكن من دخول الامتحان لأن أسرته لم تكن تمتلك رسوم الامتحان البالغة حوالي جنيهين, وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك الوقت. في سن _3 انتقلت الأسرة إلي مدينة المحلة الكبرة, حيث وجد بانوب عملا في مصنع للغزل والنسيج كان قد أفتتح حديثا. وكان الفتي بانوب يعمل وردية __ ساعة ويعطي دخله الصغير كله لأسرته للمساعدة في إعالة والديه وإخوته السبعة. وخلال هذه الفترة كان يحضر مدارس الأحد وتوطدت علاقته بالمسيح وزاد حبه للكنيسة. ومع عدد من الأصدقاء, ظهرت بوادر حب بانوب لخدمة المحتاجين عندما أسسوا جمعية أسموها ## الجمعية القبطية الأرثوذكسية للغرباء## وأعطوها شعارا الآية التي تقول ##غريب أنا في الأرض لا تخف عني وصاياك## (مزمور __9:_9) ومع أصدقائه كان بانوب يزور القري المحيطة يقرأ الكتاب المقدس للفلاحين الذين لا يجيدوا القراءة والكتابة. وكان من ضمن هذه المجموعة صديقه عبد المسيح بشارة الذي أصبح فيما بعد نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف. ومع الخدمة استمر بانوب في تعليم نفسه فاشترك في دروس المراسلة البريطانية, حيث استطاع تعلم اللغة الإنجليزية وأيضا مبادئ المحاسبة والاقتصاد التي ساعدته كثيرا في مشاريعه المستقبلية.
في سنة _049 انتقلت الأسرة إلي مدينة كفر الدوار للعمل في مصنع جديد بمرتب أكبر. هناك أيضا كون مع أصدقائه جمعية جديدة أسموها ##رابطة الشباب القبطي## وشارك في خدمة المحتاجين والتدريس في مدارس الأحد. وكان من ضمن المشاركين معه شاب اسمه صبحي سعد الذي أصبح فيما بعد الأب ميخائيل سعد كاهن كنيسة سموحة بالإسكندرية ووالد الخادم المعروف دكتور سعد ميخائيل سعد.
ونتيجة للغارات الجوية في الحرب العالمية الثانية اضطرت الأسرة أن تنتقل إلي مدينة القاهرة والتحق بانوب بوظيفة أخري في صناعة الغزل والنسيج بمصنع في شبرا الخيمة. واستطاع أن يعلم نفسه اللغة الفرنسية التي أضافت إلي المهارات التي ساعدته في مستقبل حياته وأهلته إلي أن يتحول إلي العمل في مجال المحاسبة لعدة مؤسسات.
في السنوات من _249 _ _849 كان بانوب نشطا في عدة كنائس في القاهرة وساعد في إنشاء خدمة مدارس الأحد في كنيسة الفجالة وكذلك الخدمة بين الشباب. بعدها أسس ##جمعية ثمرة مدارس الأحد## ليستطيع أن يجمع التبرعات بطريقة قانونية ويرسلها إلي المحتاجين, وما تزال هذه الجمعية مستمرة حتي يومنا هذا.
في _849 عرض علي بانوب فرصة للعمل كضابط في النقل البحري وعندما أكتشف صاحب الشركة كفاءته التجارية طلب منه أن يؤسس فرعا للشركة في إثيوبيا. بعد وصوله إلي إثيوبيا أحس بانوب بمأساة الأطفال المهملين هناك ومع صديقه إدوارد بنيامين أسس ملجأ لرعاية البنات كان يعتني بمئات الأطفال. وهناك أسس أيضا مع بعض أعضاء الجالية القبطية أول كنيسة قبطية أرثوذكسية في إثيوبيا وأيضا أول إذاعة باللغة العربية كانت تغطي المستمعين في منطقة شرق أفريقيا.
في _359 تزوج بانوب من رفيقة جهاده راندا شكري, وفي _859 انتقلا مع اسرتهما إلي بيروت حيث أصبح بانوب رجل أعمال ناجح. وأسس كنيسة القديس مرقس للأقباط الأرثوذكس هناك وهي الأولي من نوعها في لبنان ولاتزال قائمة إلي اليوم, وهناك ساعد بانوب الأقباط الذين كانوا يذهبون إلي لبنان طلبا للجوء إلي أمريكا وكان يدبر لهم مكانا للمعيشة أحيانا لمدي شهور قبل سفرهم.
وفي سنة _669 فقد بانوب كل ثروته المودعة في أحد البنوك ببيروت حين أعلن البنك إفلاسه فجأة ودون سابق إنذار, ومع الصدمة العنيفة أعطاه الرب نعمة ليتقبل الأمر ويبدأ من جديد مرددا مع أيوب ## الرب أعطي والرب أخذ فليكن إسم الرب مباركا## أيوب _:2_ واستمرت الأسرة في لبنان حتي قيام الحرب الأهلية هناك في أبريل _579 ومرة أخري فقد بانوب كل ما يملك ولكن لم يفقد إيمانه أو إحساسه بالشكر لله.
في _089استطاع بانوب أن يحصل علي تأشيرةا للهجرة إلي أمريكا وانتهي به المطاف في لوس أنجلوس, حيث أسس له ولأسرته بيتا يعيشون فيه ومشروعا تجاريا يرتزقون منه. وفي لوس أنجلوس مارس بانوب هوايته المفضلة في رعاية إخوة الرب المحتاجين داخل مصر أو من القادمين الجدد إلي لوس أنجلوس فأسس مع آخرين ##الجمعية المسيحية للخدمات الاجتماعية## كذا أسس مشروع بنك الطعام الذي يقدم الطعام للأسر المحدودة الدخل, وكان بانوب خادما أمينا للكلمة وشارك في تأسيس اجتماعات لدرس الكتاب. وساهم في نشر الكلمة المكتوبة بإصدار النشرات مثل نشرة ##طوباكم##.
في ___1 بدأت معركة بانوب مع مرض الفردوس (السرطان) الذي تحمله بشجاعة فلم يفقد يوما مرحه ولم تفارقه ابتسامته. وأعطته فترة المرض الفرصة أن يصفي أعماله وأن يرتب مستقبل ما بدأ من خدمات حتي يضمن استمراريتها من بعده.
وفي يوم الأحد أول مارس ___9 تقابلت مع ابنه الأصغر فادي وسألته عن أحوال أبيه وطلبت أن يبلغه سلامي, ولاحظت أن فادي كان يحمل معه نسخة من كتابي الأخير ##هموم قبطية##. قال لي إنه سيأخذ الكتاب إلي أبيه ليقرأه وهو في سرير المرض, وكم كان شعوري غامرا بالسعادة أن يأخذ هذا الكتاب بركة هذا الرجل العظيم قبيل رحيله, وفي 1_مارس_900 فاضت روحه الطاهرة إلي بارئها بينما كانت أسرته إلي جواره ## ومات (بانوب) بشيبة صالحة وشبعان أيام## تكوين _5 : 8.
أخونا الأكبر بانوب: لقد جاهدت الجهاد الحسن, أكملت السعي, وحفظت الإيمان وقد آن الوقت لك أن تستريح. ##طوبي للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن. نعم يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم وأعمالهم تتبعهم## رؤيا _4:_3 أعمالهم تتبعهم, حيث هم في السماء, وتخلدهم حيث نحن علي الأرض.
[email protected]