عندما أستمع إلي أغنية الفنان القدير محمد عبد الوهاب التي يقول فيها يا وابور قول لي رايح علي فين- الوابور هو الاسم الذي كان يطلقه المصريون علي القطار- وهو يصف رحلة القطار- وهو يصف رحلة القطار من بلدة إلي أخري تعود بي ذاكرتي إلي أيام الصبا حيث كانت محطة القطار في سوهاج هي الباب الملكي لدخول المحروسة قاهرة المعز, وأذكر أننا كنا نستقل القطارالمكيف الذي ينطلق من مطة سوهاج متجها إلي القاهرة في الرابعة صباحا, ونظرا لندرة المواصلات العامة (والخاصة) في تلك الأيام الخوالي (أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) ونظرا لأن قريتنا التي يحتضنها الجبل الشرقي كانت تبعد قرابة 20 كليو مترا عن سوهاج وحيث إن المواصلات العامة كانت مرتبطة غالبا بضوء النهار حيث تبدأ مع شروق الشمس وتنتهي مع غروبها, كنا نبيت ليلة السفر في لوكاندة (فندق) قريبة من محطة القطار حتي نستطيع أن نستقل القطار في الصباح الباكر, وكانت سعادتنا غامرة بركوب القطار في رحلة الذهاب إلي القاهرة وكان الأهل يتوافدون لوداعنا ليلة السفر مع دعواتهم لنا بالذهاب والعودة سالمين غانمين وكأننا ذاهبون إلي المجهول, وربما يكون لهم العذر في ذلك حيث إن نسبة كبيرة من سكان قريتنا في ذلك الوقت لم يكونوا قد غادروا البلدة منذ ولادتهم وأن فئة كبيرة من سكان قريتنا ولدوا وماتوا فيها دون أن يروا المدينة ولا المدنية.
كانت القطارات في ذلك الوقت هي وسيلة المواصلات الرئيسية بين سوهاج (ومحافظات الصعيد الأخري) والقاهرة وكانت القطارات نوعان: القطارات العادية والقطارات المكيفة وكانت الأخيرة تقتصر في الأعم الأغلب علي الموظفين والأعيان, بينما كانت القطارات العادية للفئات الأخري من المجتمع وكان يندر أن تري خلطا بين هاتين الفئتين بين ركاب كل نوع, احتفظت القطارات بهيبتها حتي ظهرت سيارات الأجرة من ماركة بيجو 504 التي تتسع لسبعة من الركاب والتي زادت اهميتها في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات كوسيلة انتقال بين المحافظات المختلفة والقاهرة وزاد عددها مع التوسع في تعبيد الطرق الفرعية المؤدية إلي القري والنجوع وأصبحت وسيلة موازية تنافس القطارات, ومع ازدياد حركة الركاب التي تزامنت مع الزيادة السكانية وتلاشي المسافة بين الريف والحضر حتي أن بعض هذه السيارات أصبحت تعمل خارج مواقف سيارات الأقاليم التي تتواجد عادة في عواصم المحافظات والمراكز الكبري, ثم بدأت بعد ذلك مرحلة جديدة من نشاط هذه السيارات للعمل من خلال أسلوب ما يمكن أن يسمي توصيل الطلبات للمنازل أو أسلوب من الباب للباب حيث تبدأ هذه السيارات رحلتها من إحدي القري في صعيد مصر إلي إحدي الضواحي أو الأحياء العشوائية التي تتركز فيها غالبية المهاجرين من هذه القرية أو تلك بالقاهرة ويقوم السائق بتوصيل العملاء إلي منازلهم في العاصمة.
وعلي الرغم من أن هذا النمط الجديد من وسائل النقل قد اجتذب شريحة كبيرة ممن كانوا يعتمدون كلية علي القطارات وخصوصا بعد إنشاء الطريق الشرقي الذي يبدأ من الكريمات جنوب حلوان وكذلك الطريق الغربي الموازي للطريق الزراعي القديم والذي يبدأمن طريق الفيوم خلف منطقة الأهرام الأثرية وعلي الرغم من استخدام سيارات أكثر حداثة من سيارات البيجو القديمة (الميكروباص), إلا أنه نظرا لارتفاع تكلفة هذه الخدمة فإن الطبقات الأشد فقرا ظلت علي تمسكها بالسفر بالقطارات العادية علي الرغم مما أصابها من تدهور في العشرية الأخيرة, وربما يعزي ذلك إلي رخص تكلفة السفر بالقطارات العادية عن سيارات الأجرة التي تعمل بين الأقاليم.
وتعد السكك الحديدية المصرية ثاني أقدم خطوط حديدية في العالم بعد نظيرتها البريطانية حيث بدأت عملها في مصر عام 1851 وتنقل الآن حوالي 1.4 مليون راكب يوميا وارتبطت القطارات في ذاكرة الشعب المصري بالسفر وفراق الأحباب ولقاءهم أيضا وظهر ذلك في الأعمال السينمائية المصرية مثل فيلم رصيف نمرة خمسة للمخرج يوسف شاهين وغني لها كبار المطربين والمطربات مثل الأغنية الشهيرة للفنانة عفاف راضي يا وابور الساعة 12 والتي غناها أيضا الفنان إيمان البحر درويش, كما لا ننسي أغنية الفنان محمد عبد الوهاب كلمات الشاعر أحمد رامي والتي غناها في فيلم يحيا الحب عام 1937 يا وابور قول لي رايح علي فين ثم يستفيض عبد الوهاب في وصف وابوره(قطاره) الذي يجري قبلي وبحري يطلع وادي وينزل كوبري يقرب حبيبا ويبعد حبيبا آخر ويجمع شمل الأحبة ويفرقهم, وقد كانت محطة القطار في كل محافظة ومدينة وقرية هي بوابتها التي تصلها بالعالم الخارجي والتي تعد مركز العمران وبوابة الحياة, فمن خلالها يأتي الأحباب وتأتي البضائع (الطرود) والبريد والجرائد اليومية.
مع ازدياد الحراك البشري والتكدس السكاني فقد القطار رومانسيته وأصبح السفر بالقطار شر لا بد منه وأصبح في غالبه وسيلة المواصلات التي تستخدمها الطبقات الفقيرة في المجتمع- باستثناء قطارات النوم والقطارات المكيفة, وتعد حادثة قطار الصعيد التي وقعت في فبراير 2002 بـ العياط الأسوأ من نوعها في تاريخ السكك الحديدية المصرية, حيث راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة وخمسين مسافرا بعد أن تابع القطار سيره لمسافة تسعة كيلو مترات والنيران مشتعلة فيه, وهو ما اضطر المسافرين للقفز من النوافذ, وكانت عربات القطار مكدسة بالركاب البسطاء المسافرين لقضاء عطلة عيد الأضحي في مراكزهم وقراهم في صعيد مصر, أما آخر الحوادث الكبري للقطارات في مصر فقد حدث في أكتوبر عام 2009 حيث لقي أكثر من 20 راكبا مصرعهم وأصيب عشرات آخرون في حادث تصادم قطارين للركاب قرب العياط جنوب القاهرة.
وعلي الرغم من أنني- كغالبية المصريين- أحب عبد الوهاب ووابوره الذي تغني به وأحب ركوب القطارات ولي معها ذكريات جميلة إلا أنني لابد أن أراجع نفسي قبل الإقدام علي ركوب القطاراتمرة أخري وربما أجنح إلي كتابة وصيتي الشرعية قبل الإقدام علي هذه المغامرة.
* خبير السكان ودراسات الهجرة