من صحافة الوطن إلي صحافة المهجر
أكثر من ستة عقود والدكتور وليم الميري يعمل في هدوء وإخلاص, بين مصر وأمريكا , في حقل الصحافة والكتابة والترجمة والثقافة الراقية , ولم يتخل خلال هذه الرحلة الطويلة ولا ليوم واحد عن بساطته وهدئه ومبادئه واستقامته الفكرية وإيمانه بالحريات بصفة عامة وحرية الصحافة بشكل خاص,وقد دفع ثمنا في سبيل ذلك من التهميش إلي الاضطهاد كان سببا رئيسيا لمغادرته مصر عام .1969
ولد الدكتور وليم الميري في 26 مايو 1924 في قرية مير بمحافظة أسيوط, وبعد تخرجه في كلية الأمريكان بأسيوط التحق بكلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة القاهرة عام 1943, وكان من زملاء دفعته الأستاذ نظير جيد قداسة البابا شنودة حاليا بقسم التاريخ, والدكتور مراد وهبة بقسم الفلسفة, وصديقه المقرب الكاتب الكبير أنيس منصور, الذي أفرد للدكتور وليم الميري صفحات في كتابه الشهير ##في صالون العقاد كانت لنا أيام## , وقال عنه في هذا الكتاب ## وليم الميري إنسان طيب القلب وصديق حقا##.
عمل الدكتور الميري في القسم الخارجي بجرائد الزمان والأهرام ودار الهلال منذ بداية الخمسينيات وحتي هجرته لأمريكا, كما كان له حديث من وقت لآخر علي البرنامج الثاني للإذاعة المصرية. حصل علي الماجستير في الصحافة من كلية الآداب جامعة القاهرة عام .1953 وفي عام 1959 نشر أول كتبه بعنوان ## التحرير الصحفي## , وشاركه في التأليف الدكتور عبد اللطيف حمزة رئيس قسم الصحافة بكلية الآداب وقتها.
عرف عن الدكتور وليم الميري بإلاضافة إلي عمله الصحفي أنه كان أسرع مترجم في مصر في خمسينيات القرن الماضي, وله في هذا المجال ترجمات عديدة من ## محاورات المأدبة لأفلاطون##, إلي مذكرات جورج بوش الأب مع سكروكروفت مستشاره للأمن القومي, وانتهي الدكتور وليم الميري من ترجمتها بعد شهر واحد فقط من صدورها.
في عام 1961 حصل علي الدكتوراة في الصحافة من كلية الآداب جامعة القاهرة وكانت عن ## الأخبار الخارجية في الصحافة المصرية##, وكانت هذه الرسالة سبب مشكلته وسبب هجرته أيضا,ولهذا الموضوع قصة تستحق أن تروي. بحكم عمله في قطاع الأخبار الخارجية كان الدكتور وليم الميري علي دراية بالقيود المفروضة علي الأخبار وعلي التلاعب بها وتزويرها وتوجيهها من قبل رجال يوليو 1952, ولهذا جاء بحثه الأمين للدكتوراه كاشفا لعورات حرية الصحافة في عهد الثورة, وكاشفا للقيود المتشددة علي حرية الصحافة بصفة عامة. وفي يوم مناقشة الرسالة وقبل ساعات من موعد مناقشتها, تلقي اتصالا من الجامعة بقرار تأجيل المناقشة بناء علي طلب د. رشاد رشدي, أحد المناقشين والذي كان قريبا من مجلس قيادة الثورة,وكان رشاد رشدي مصرا علي إلغاء الرسالة والقضاء علي جهده الذي استمر لسنوات, ولكن بعد تدخلات من عميد الكلية ورئيس قسم الصحافة تم تأجيل مناقشة الرسالة لعدة شهور يقوم خلالها الباحث بحذف أي نقد موجه لحرية الصحافة في عهد الثورة, وهذا ما تم بالفعل. وفي يوم المناقشة الجديد أصر د. رشاد رشدي علي إعطاء الباحث صفرا بينما حصل علي أعلي الدرجات من المناقشين الآخرين .. وبهذا أجيزت الرسالة وحصل علي درجة الدكتوراه, ولكنه لم يعين في الجامعة وظل منتدبا لتدريس مادة التحرير الصحفي من عام 1961إلي عام .1969 من الأمور التي أثرت في تكوين الدكتور وليم الميري الثقافي والفكري تتلمذه علي يد المفكر الكبير عباس محمود العقاد, فكان ضيفا دائما علي صالونه منذ عام 1944 إلي عام هجرته إلي أمريكا.
بعد هجرته إلي أمريكا ظل الدكتور وليم الميري وفيا ومخلصا للعمل الصحفي, حيث قام بتأسيس أول صحيفة مصرية علي النمط الصحفي الحديث في أمريكا عام 1972, وهي صحيفة ## مصر## والتي استمرت حتي عام 1979 توقفت لأسباب مالية.ولم يضن بجهده ومشورته لمعظم الصحف المهجرية التي صدرت بعد ذلك. ومن الذكريات المحببة إلي نفسه أنه كان ضمن الفريق الذي اجتمع به الراحل أنطون سيدهم عام 1957 أثناء التحضير لصدور جريدة وطني,وأيضا كان ضمن الفريق الذي اجتمع به المهندس يوسف سيدهم عام 2000 أثناء التحضير لصدور وطني الدولي.
عاش الدكتور وليم الميري ومارس الصحافة بكافة فنونها, من جرائد الوطن إلي الجرائد المهجرية,إلي الترجمة والنشر, حتي اختتم حياته الصحفية بوظيفة المستشار الصحفي لبعثة قطر لدي الأمم المتحدة. وفي الترجمة ظل لمدة عشر سنوات مترجما خاصا لشقيق العاهل السعودي, حيث كان يترجم له تقريرا يوميا عن أهم ما جاء في الصحافة الأمريكية , طبعا هذا قبل ثورة الانترنت والفضائيات التي بفضلها أصبح الشخص قادرا علي قراءة النيويورك تايمز والواشنطن بوست وهو قابع في قري الصعيد النائية.
ينتمي الدكتور وليم الميري كذلك إلي عائلة محبة للخدمة العامة,فشقيقه هو الواعظ الشهير الراحل مرقص يني الميري, وابن شقيقه هو عالم الدراسات الآبائية الدكتور رودلف مرقص يني, وابن شقيقه أيضا الناشط القبطي الدكتور رائف مرقص يني,أحد المؤسسين الأوائل للحركة القبطية في المهجر.
حياة الدكتور وليم الميري الممتدة في العطاء والعمل العام وعالم الصحافة الوطنية والمهجرية, لم تخل من لاضربات القاسية وعلي قمتها الحدث المؤلم الذي كسره في هذه السن المتقدمة, وهو وفاة ابنه الشاب النابه,المحامي بقسم العقود بالأمم المتحدة ناهل وليم الميري عام 2005, ولعل وقع المفاجأة عليه كان مذهلا, حيث اعتاد زيارة ابنه كل عدة أيام في سكنه الخاص بالقرب من مبني الأمم المتحدة, وفي إحدي الزيارات صدمه حارس المبني بقوله لدينا أخبار مؤسفة لك حيث عثرنا علي جثة ابنك بعد ثلاثة أيام من وفاته وهو ملقي علي كرسيه في صالون منزله حيث كان جالسا يشاهد التليفزيون.. وكانت المفاجأة صاعقة بالفعل, خاصة وأن هذا الشاب الذي هاجر وهو في سن 12 سنة مع والده وتخرج في أفضل جامعات أمريكا, كان موهوبا إلي أقصي درجة , فكان يكتب القصص العربية بلغة أدبية رصينة, وفي إحدي زياراته للقاهرة فؤجئ الراحل الكبير نجيب محفوظ بشاب في صالونه هاجر إلي أمريكا وهو صغير ومع هذا قرأ أدب نجيب محفوظ بشكل مهني رفيع, وكان يناقش أديبنا الكبير في دقائق رواياته.
تحية خالصة للدكتور وليم الميري علي مسيرته المشرفة المخلصة للصحافة وللوطن وللقضية القبطية أيضا, وعلي عطائه الممتد, وعلي روحه الهادئة المسالمة, وعلي صبره وجلده وسكينته, وعلي تشجيعه للكثيرين وأنا منهم.