حتي يوم الخميس الماضي, كانت أنباء ما يحدث في ليبيا تبدو كأنباء طيبة وسط الصيف المضطرب الذي تلا الربيع العربي, حيث بلغ عدد الدول التي اعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي, الذي يتخذ من بنغازي مقرا له كحكومة شرعية لليبيا, قد تجاوز 30 دولة.. كما كانت كافة الدلائل تشير إلي أن القوات المسلحة التابعة للمجلس تكسب أرضا كل يوم في مواجهاتها مع قوات القذافي, المعزول في طرابلس.
ولم يكن هذا هو كل شيء, حيث تحدث اثنان من كبار مسئولي المجلس بتفاؤل, أثناء زيارة للولايات المتحدة عن خططهما لتحقيق الاستقرار في البلاد, وتنصيب حكومة ديموقراطية بعد رحيل القذافي.
وهذا التفاؤل انتقل أيضا علي ما يبدو إلي غيرهم, حيث قال خبير أمريكي متخصص في شئون الديموقراطية بنبرة حماسية, بعد أن استمع إلي ما قاله المسئولان الليبيان ##إن ليبيا هي الحالة السهلة أمامنا بالفعل##. كل ذلك كان قبل أن يأتي حادث القتل المفاجئ للواء عبدالفتاح يونس القائد العسكري لقوات المجلس الوطني الانتقالي, الذي اغتيل في ظروف محيرة للغاية, لم يكشف النقاب بعد عن كافة تفاصيلها.
وقد أدي اغتيال يونس إلي دفع الحكومة الجديدة وعاصمتها المؤقتة إلي حالة من الاضطراب والفوضي, كما أدي كذلك إلي طرح أسئلة عاجلة في عواصم ##الناتو## حول المجلس الوطني الانتقالي, وجيشه الذي يفتقر إلي التدريب والعتاد, وعما إذا ما كان الاثنان يتعرضان لخطر التقويض في المرحلة الراهنة.
وفي الحقيقة أن ذلك يعكس موضوعا مستمرا من موضوعات الانتفاضة المستمرة عبر دول الشرق الأوسط وهو التوتر الدائم بين التوق للتحديث, وللديمقراطية, والحرية الشخصية, الذي يحرك الأجيال الصاعدة ويدفعها إلي الشوارع, كما يحرك أيضا القوي المضادة الممثلة للطائفية, والفساد والاستبداد, التي تهدد بجذب الثورة إلي أسفل.
ويونس, القائد الليبي, يبدو كما لو كان ضحية لما يمكننا أن نطلق عليه أنه تيار سفلي من تيارات الشرق الأوسط القديم. فليس معروفا حتي الآن من الذي قتله, ولماذا.. وكل ما نعرفه هو أنه قد استدعي إلي بنغازي من خط الجبهة من قبل عناصر تابعة لقيادة الثوار, للإجابة علي أسئلة غير محددة عن سلوكه, ثم قتل بعد ذلك في الطريق بواسطة المقاتلين الذين يرافقونه.
وقد أشارت التظاهرات الغاضبة التي قام بها أعضاء من قبيلة العبيدات التي ينتمي إليها يونس, إلي صراعات مريرة بين قوي المعارضة, يعتقد بعض الخبراء أنها تمثل أخطر تهديد ممكن لليبيا في مرحلة ما بعد القذافي.
والشيء اللافت للنظر بشأن ليبيا -وبشأن سوريا ومصر أيضا- هو أن هناك مؤشرات قليلة علي وجود مثل هذه القوي السوداء ضمن قيادات الثورات, التي اندلعت في هذه البلدان. فالشبان المصريون والسوريون علي الفيسبوك, يتحدثون لغة موحدة عن العلمانية, والديمقراطية الليبرالية, وحقوق الإنسان لأن هذا الجيل الذي تربي علي الإنترنت يريد, قبل كل شيء, الالتحاق بباقي عالم القرن الحادي والعشرين.
ومجلس ليبيا الانتقالي, ليس استثناء من ذلك. حيث نشر قادته بيانا في 29 مارس الماضي قالوا فيه:##ليس هناك بديل عن بناء مجتمع حر وديموقراطي, من أجل ضمان سيادة القانون الإنساني الدولي وإعلانات حقوق الإنسان… وهذا الشيء يتحقق من خلال الحوار, والتسامح, والتعاون, والتماسك الوطني, والمشاركة الفعالة من قبل جميع المواطنين##.
وقد تبدو ليبيا أسهل من سورية أو حتي من مصر لعدة أسباب: فعدد سكانها الذي لا يزيد عن ملايين نسمة يعتبر صغيرا نسبيا, كما أن الطائفية فيها, علي رغم احتوائها علي أقلية صغيرة من البربر, ليست بنفس القوة التي هي عليها في العراق, أو سوريا. مثلا. والدولة الليبية علاوة علي ذلك توجد بها ثروة نفطية كبيرة, كما تمتلك ما يقدر بـ168 مليار دولار من الأصول التي تم تجميدها في بنوك أجنبية. وعلي النقيض من بشار الأسد لا يحظي القذافي سوي بالقليل من الدعم الشعبي, وبالتالي فإنه ليس من المرجح أن يلهم بنوع من التمرد علي الطراز العراقي. وبفضل تدخل ##الناتو## فإن الثوار يمتلكون ما يمكن اعتباره في نهاية المطاف ميزة عسكرية حاسمة -وخصوصا إذا ما ظلت الحكومات الغربية علي موقفها المدافع عنها.
وقد أدلي فتحي محمد البعجة عضو المجلس الوطني الانتقالي, وكاتب البيان المشار إليه في الفقرة السابقة, بحديث أثناء زيارة أخيرة قام بها لواشنطن لتقديم عرض بالصوت والصورة لجهود المجلس الوطني الانتقالي وعملياته وكل ما يتعلق به أمام ##مجلس الأطلنطي## في العاصمة الأمريكية يوم الثلاثاء الماضي, قال فيه إن حكم القذافي الذي استمر لما يزيد عن أربعة عقود, قد ترك البلاد بدون مؤسسات منظمة تقريبا. ويقول البعجة أيضا ##نحن نواجه في الوقت الراهن فراغا سياسيا.. فليست هناك أحزاب سياسية تقود الإصلاح, وليست لدينا برامج سياسية تتعلق بمستقبل ليبيا. وليست لدينا شخصية تقود التحول نحو الديموقراطية.. ليس هناك شيء علي الإطلاق##.
إن حالة الصراع العسكري المستمرة منذ ما يزيد عن 4 أشهر, وتحديدا منذ أن بدأت الحملة الجوية لحلف الأطلنطي, قد أتاحت الفرصة للثوار لتأسيس بنيات أولية تمثلت في وزارة داخلية وقوة شرطة في بنغازي. وبالإضافة إلي ذلك يقول البعجة, إن هناك 300 منظمة مجتمع مدني قد ظهرت في بنغازي زيادة علي ما يقرب من 150 صحيفة, ونشرة صحفية, وموقع تدوين, بمبادرات من الناس ##الذين يريدون أن يعبروا عن أنفسهم للمرة الأولي##.
إن الدول الغربية التي التزمت الحذر في البداية, قد تأثرت بدرجة تكفي لقيامها بالاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي. كما أن اللجنة المعروفة بـ##لجنة الاتصال حول ليبيا##, أيدت في اجتماعها الأخير في إسطنبول الشهر الماضي, الحكومة الجديدة في ليبيا, وخريطة الطريق التي أعدتها.
غير أن تيارات ودوامات الشرق الأوسط القديم, جذبت القائد العسكري للثوار إلي أسفل. وفي ليبيا, وفي معظم أنحاء المنطقة هذا الصيف, يظل هناك سؤال ينتظر الإجابة هو ذلك المتعلق بما إذا كان النظام العربي الجديد سيتمكن من النجاة, من ذلك التيار السفلي.
واشنطن بوست