الديموقراطية هي أبعد النظم السياسية عن العنف, ولكن عندما تخرج أقلية ضئيلة علي العملية الديموقراطية, كما حدث أخيرا في بانكوك أو في البحرين, فإن الجهات المسئولة لا بد من أن تتحرك لضبط الأوضاع. وعندما يدرس المرء تاريخ بعض البدايات الديموقراطية, يجد أن القوي الديموقراطية الصاعدة لجأت بداية إلي العنف لإزاحة القوي اللاديموقراطية!
لا يسير قطار التاريخ بالسلاسة والنعومة التي يريدها المثاليون والإنسانيون والطوباويون … ابتداء من أفلاطون! في تاريخ كل أمة ثمة عنف ما, بما في ذلك تاريخ العرب والمسلمين.
يمكن, لحسن الحظ, الاستفادة العاقلة من دروس التاريخ وعبره… قلنا العاقلة… أما غير العاقلة, والتي مردها إلي الغرائز البشرية العمياء المغروسة, للأسف, في بني آدم _ وكذلك المصالح المتناقضة _ فليعالجها من يود معالجتها. والتراث الإنساني في الفلسفة والتحضر والتربية وعلم النفس وعلم السياسة, إلخ… حافل بمثل هذه المحاولات النبيلة والمشكورة… إن وجدت! وهي مجدية, بلا ريب, إن ارتبطت بالإنصاف والعدل. فالعدل أساس الملك. والمقاربات العقلانية السائدة اليوم في أوربا تعطي أملا بأن البشرية يمكن أن تحل إشكالاتها من دون عنف. فالعلاقات بين الدول, كما بين دول أوربا, أصبحت أقرب اليوم إلي المقاربات العقلانية. ولكن قبل الحربين العالميتين وفي نهاية القرن التاسع عشر شاع في أوربا شعور وانطباع متفائل واهم بأن الإنسانية الأوربية بالطبع قد بلغت سن الرشد العقلي المتجاوز للعنف.
… ثم جاءت الحربان العالميتان _ وكانتا بين الرأسماليات الأوربية ومن أجل الأسـواق -, وتكشف الإنسان الأوربي العقلاني المتقدم عن وحش كاسر… وأخذ يدمر بأحدث وسائل التدمير الحديث ما بناه هو وأسلافه في أوربا والعالم من مدن ومكتبات وجسور, إلخ…, وأصبحت الصورة السائدة في أوربا, وفي آسيا كذلك, صورة الخنادق المتقاتلة و جنودها الجوعي المدفوع بهم إلي ساحات القتال. وساهم الطيران الحديث في تدمير المدن الآهلة بالسكان علي رؤوس المدنيين سواء في لندن في بدايات الحرب الثانية أو في دريسدن الألمانية في نهايتها.
عندما زرت متحف الضربة النووية لهيروشيما اليابانية, قبل سنوات, ورأيت تأثير الإشعاع النووي الضاري في الخيول البريئة والبعيدة بعدا شاسعا عن مكان الانفجار, ناهيك عن البشر وما حل بهم وبذريتهم, تملكني غضب شديد, أنا الذي أري تأثير الضربة بعد سنوات طويلة وبالمناسبة فاليابان كانت تنتظر شـروط الاستسلام قبل شهور من قرار الرئيس ترومان ضربها بالقنبلة, والتي تبدو ثأرا لبيرل هاربر التي يقال, والعهدة علي الراوي, إن تشرشل شجع وقوعها لجر أميركا إلي صفه ضد ألمانيا وحليفتها الشرقية اليابان.
والتفت إلي مرافقي الياباني, بعد انتهاء الجولة, أسأله: ماذا ستفعلون؟ ابتسم الابتسامة اليابانية المهذبة الغامضة… ولم يجب!
غير أن هذا الصمت المهذب غير مستمر اليوم في الشرق الأقصي. فضجيج سباق التسلح الكثيف بين دوله, منذ أمد, ما زال جاريا… ومنه قرار تايوان, الجزيرة الصينية المنفصلة, الحصول علي صفقة أسلحة أمريكية بالبلايين _ خلال أزمة مالية عالمية مست الجميع, ويسعي كل من لديه سلاح نافع لتحويله إلي مال لتمويل مؤسساته المهددة! الأمر الذي دفع إلي توتر العلاقات بين القوتين العظميين في أيامنا وهما الصين والولايات المتحدة. ولا تخفي اليابان والهند مخاوفهما من هذا الصعود الصيني الذي لا تعلم عواقبه… ويترقب العالم مناوراته العسكرية في البحر الأصفر الذي تتنازع جزره دول آسيوية عدة!
وللتاريخ, فإن القوات اليابانية, عندما احتلت كوريا, وأجزاء من الصين في فورة الصعود الفاشي الياباني في حينه, أعطت المراقبين انطباعين متناقضين: الأول تحضرها, والثاني وحشيتها… أي أن التحضر لم يحجب التوحش!
تأمل المفكر الألماني شبنغلر أوضاع عالمه مع اقتراب نهاية الحرب الأولي عام 1917 وأصدر كتابه المشهور انحطاط الغرب الذي ترجم إلي الانجليزية عام 1928, أي بعد عقد من انتهاء الحرب العظمي الأولي, وقبل عقد, تقريبا, من اندلاع الحرب العظمي الثانية, فكل حرب تلد أخري, كما قيل عندنا, بعد حروب متقاربة تحتم علي جيل واحد, هو جيلنا, أن يعيشها هنا في الخليج… أما علي امتداد المنطقة العربية فالحروب أكثر من أن تحصي. وقد قال الرئيس المصري السابق أنور السادات إن حرب أكتوبر ستكون آخر الحروب… فهل ثمة ما يؤكد ذلك؟
ثمة تصور لدي بعض المثقفين العرب – وأخشي أنهم من النخب التي تنظر إلي الواقع بمنظار ملطف وتأمل – نجاح المشروع الوطني الجامع, وهو مشروع مغيب اليوم عن الساحة, ما لم تنبت له أسنان سياسية وينزل إلي الواقع.
مضمون تصورها باختصار: طالما أن أمما كثيرة مـرت بالصراع والنزاع في تطورها, ومن أجل وصولها إلي المفهوم الوطني والديموقراطي المجمع عليه, فلماذا يجب أن يكرر العرب الحماقات ذاتها من أجل ذلك؟ ألا ينظرون في هذه التجارب ويتعظون بها من دون إراقة دماء؟
وأخشي أن هذا الطرح متأت عن قياس عقلي فاسد لا ينطبق علي الواقع البشري وطبيعة المجتمعات والأفراد.
لماذا ينبغي _ مثلا – أن يحرق الطفل أصابعه في النار ليعرف ضررها, وقد أحرق غيره ممن يكبرونه أصابعهم في النار ذاتها؟… ولماذا لا بد من أن يتعلم الزوجان أصول المعايشة بينهما طالما إن أزواجا آخرين قد سبقوهما… و تعلموا إيجابا وسلبا؟… إلخ. ولماذا يجب أن يطير الطيار, تحت التدريب, بين السحب, وفي العواصف, ليتعلم الطيران, بينما سبقه آخرون؟
هذه الحالات كلها لا تدعم ذلك التصور المثالي الطيب لدي بعض النخب الثقافية العربية التي أدمنت قراءة الكتب من دون التفات إلي الواقع؟ هل قرأت أقله كتب التاريخ واستوعبت واقعه؟
في عالمنا الإسلامي والعربي اليوم, ثمة اجتهادات متعاكسة لكيفية اجتياز الأزمات الراهنة… فهل يمكن أن يتم ذلك بلا صراع أو خلاف؟ نرجو ذلك.
والمواجهة بين الإسلاميين و العلمانيين في تركيا العائدة إلي محيطها التاريخي… والمنجذبة من ناحية أخري إلي فكرة الانضمام الي النادي الأوربي, والتجاذب الدائر بين المحافظين والإصلاحيين داخل إيران, وطموحها النووي, السياسي في جوهره, بينها وبين القوي الغربية…
والحرب الطاحنة الدائرة في أفغانستان وباكستان واحتمالات العنف, التي تزرع المخاوف هنا وهناك, والتعنت الإسرائيلي حيال الحقوق الفلسطينية المتبقية.
هل هذا كله سيصل إلي نهاية سعيدة؟ نرجو ذلك!
أيا كانت الاحتمالات, فلا بد من العودة إلي المشروع الوطني الجامع جسرا للإنقاذ, وذلك ما سنتناوله في المقالة المقبلة, إن شاء الله.
* عن الحياة اللندنية