هذا السؤال الذي واجهتني به شخصية مسيحية مرموقة, أكن لها كل التقدير والاحترام, تركني للوهلة الأولي في حيرة. إذ أن شواغل السياسة اليومية لم تكن لتتيح لي المسافة التأملية الكافية لإجابة محدثي عن سؤاله إجابة دقيقة في تلك الجلسة. في وقت لاحق, وبعد أن استعرضت في ذهني مسيرة الطائفة المسيحية علي مدي السنوات الأخيرة, وجدتني أميل إلي جواب قد يؤكد مخاوف هذا السؤال الوجودي, وإن كان يؤكد واقعيته ومشروعيته.
لماذا؟ لأنه لم يعد لدينا, كمسيحيين, رؤية لدورنا السياسي والثقافي سواء في لبنان أو العالم العربي.
لم يعد لدينا رؤية واضحة لمستقبل لبنان ولمستقبلنا فيه, مع أننا كنا أول المبادرين إلي طي صفحة الحرب من خلال السينودس من أجل لبنان (1995) والإرشاد الرسولي (1997), بالإضافة إلي دور كنيستنا الحاسم في تثبيت اتفاق الطائف لسلام لبنان. ومع نداء المطارنة الموارنة (20 يوليو2000) ولقاء قرنة شهوان (30 أبريل 2001) كنا ايضا أول المنخرطين في معركة الاستقلال الثاني. كنا ايضا وايضا في طليعة مسيحيي الشرق الذين دعوا إلي التمييز الصريح بين الدين والدولة, إلي حد الفصل, مطالبين بإقامة دولة مدنية في لبنان; وذلك من خلال المجمع البطريركي الماروني (مايو 2006).
إلي ذلك لم تعد لدينا رؤية واضحة لمستقبلنا في العالم العربي, هذا العالم الذي شرع في إقامة نظامه الإقليمي الجديد مع ## إعلان الرياض## الصادر عن القمة العربية في آذار .2007 لهذا الإعلان أهمية استثنائية في تاريخ التفكير العربي الحديث, من موقع جامعة الدول العربية, إذ قدم نظرة جديدة إلي العروبة, بصفتها ##رابطة ثقافية## لا عصبية قومية, تحترم وجود ##التنوع والتعدد والخصوصيات## في مكوناتها, وتعلي من شأن ##التسامح والإعتدال والحوار وحقوق الإنسان##, كما تنحاز بلا تردد إلي فكرة السلام.
هنا أيضا, أي بخصوص العروبة, سبق لنا مع مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك والسينودس البطريركي أن قدمنا, قبل ##إعلان الرياض##, تصورا جديدا للعروبة ##بصفتها رابطة حضارية تقرب بين العرب لا مشروعا سياسيا يباعد بينهم, وبصفتها أيضا مدخلا لتجديد مساهمة العرب في الحضارة العالمية##. ولا ننسي دورنا الريادي في ##ثورة الأرز## التي شقت طريق التغيير السلمي في المنطقة العربية, للمرة الأولي في تاريخها الحديث والمعاصر, بحيث غدت بيروت في لحظة فريدة قبلة العالم العربي و##ساحته العامة## التي يري فيها ربيعه المنشود.
اخيرا ليست لدينا اليوم رؤية الي مستقبلنا في الإطار المتوسطي. هذا فيما تبذل جهود حثيثة, منذ قيام الإتحاد من اجل المتوسط عام 2008, لجعل البلدان المشاطئة في هذا البحر منطقة تعايش وتقارب بين شعوبها وثقافاتها العريقة, بعد فترة طويلة من الشقاق والنزاع. ولنقل أيضا إنه كان لنا في السابق مساهمات رائدة في هذا المجال مع ميشل شيحا وجورج نقاش ورينه حبشي وآخرين كثر.
لماذا وصلنا إلي ما نحن عليه اليوم من غياب الرؤية واضمحلال الدور؟
_ لأننا, مع انسحاب القوات السورية من لبنان, قفزنا قفزة هائلة الي الخلف, عائدين إلي حيث كنا عام 1990, إلي أجواء تلك ##الحرب الأخوية## التي دمرت جماعتنا المسيحية. كثير من قادتنا السياسيين يبررون خياراتهم الراهنة بمعايير تلك الحرب, غير قادرين علي تخطي صدمتها.
_ لأن مشروعية العمل السياسي لدي هؤلاء لا تستمد من متطلبات الحاضر والمستقبل الفعلية, بل من ماضي الحرب. من هنا تلك الرغبة الجامحة في استحضار ذاكرة المجازر المسيحية -المسيحية, وفي نبش القبور, علي أمل توجيه ضربة ساحقة للخصم السياسي! هذا من دون ان ننسي المتاجرة الفاجرة بدماء الشهداء….
_ لأننا, وفي خضم نزاعاتنا التافهة, نجتر طعاما واحدا, هو الخوف! الخوف من توطين الفلسطينيين في لبنان, ومن تناقصنا الديموجرافي المطرد, ومن سلفية سنية, وأصولية شيعية… وها نحن قاعدون علي رصيف التاريخ في انتظار ##حام## نضع بين يديه مصائرنا!
لماذا وصلنا إلي هنا؟
لأن السياسة عندنا تحولت إلي مجرد صراع علي السلطة, يسمح فيه بتوجيه كل أنواع الضربات, ولا غاية فعلية له إلا تسجيل الأهداف في مرمي الخصم. من هنا هذا الفصام ( شيزوفرينيا) الذي نلاحظه في المواقف, حيث المطالبة بالشيء ونقيضه في آن واحد: المطالبة بمحاكمة الفاسدين ورفض محاكمة القتلة! محاربة الأصولية الإرهابية في بعض المخيمات وغض الطرف عنها أو دعمها في مخيمات أخري! المطالبة بحماية الشرعية الدولية من جهة ورفض تطبيق قراراتها من جهة اخري! إدانة ##الإقطاع السياسي## وممارسة المحسوبية علي نطاق واسع!….
لماذا وصلنا الي هنا؟
لأننا فقدنا معاييرنا الأخلاقية ورجعنا إلي ##قبليتنا##, فانحدرنا بوضعنا من جماعة معنية بمستقبل لبنان والمنطقة إلي جماعة لا يعنيها سوي ##حقوقها## الخاصة.
هل تراجع المسيحيين اللبنانيين إذا حالة ميؤوس منها؟
استنادا إلي واقع الحال, وفي ما لو استمررنا علي هذا المنوال, لن يكون الجواب إلا ب##نعم##!
هل يجب ان نستسلم للأمر الواقع ونتقبله؟
كلا, بالفم الملآن! ولكن شريطة أن نتحلي بالشجاعة وأن نتحمل مسئولياتنا كافة. لقد قمنا بذلك عام 2005 حين شارك كل منا, بقرار حر وإحساس عظيم بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية, في انتفاضة الاستقلال. لم نأت إلي ساحة الشهداء تلبية لنداء أو قرار من خارجنا, بل أتينا باعتبارنا أم الصبي وأباه. نعم كان للأحزاب السياسية حضور فاعل في تلك الانتفاضة, ولكنه كان حضورا ##أقليا## بطبيعة الحال.
هل بإمكاننا اليوم أن نأمل بتغيير مجري الأحداث وأن نصعد التلة؟
نعم, إذا عدنا إلي جوهر رسالة الإنجيل المقدس الذي يكرم الإنسان انطلاقا من فرديته وفرادته لا من قطيعيته, والذي يعلم الناس كيف يتجنبون السقوط في فخ العنف ليعيشوا معا بسلام. ذلك أن إنسانية الإنسان الفرد لا تتحقق وتتجوهر إلا بوجود ##الآخر##.
نعم, إذا تمكنا, علي قاعدة قيمنا الأصيلة, من وضع حد لهذا التزاحم المجنون حيث يطمع كل منا بما لغيره, واذا تمكنا من مغادرة الثأر كي ##ندع الموتي يدفنون موتاهم##.
نعم, إذا تمكنا من الإجابة عن السؤال الجوهري الذي يحدد مصيرنا: ##كيف نعيش معا, متساوين في الحقوق والواجبات, ومختلفين في انتماءاتنا الدينية واختياراتنا الشخصية##.
كيف نعيش معا, متخففين من مخاوفنا الطائفية الموروثة, وغير باحثين عن ##أمان## زائف داخل قبيلة ما, أكانت قبيلة طائفية أو حزبية, تقليدية أو ##حديثة##, متوارثة أو مختارة, محكومة لرمزية دينية أو محدودة بلون أو راية؟
كيف نعيش معا من دون تشكيك متبادل, ومن دون أن نجعل من الفروق سببا لتراتبية تخولنا السيطرة علي ##الآخر## أو إقصاءه.
كيف نعيش معا مدركين أن العلاقة مع الآخر ليست ضرورة تفرضها الحياة المشتركة في مجتمع متنوع فحسب, بل هي أيضا وخصوصا مصدر غني لكل منا ولجميعنا.
إن قضية ##العيش معا##, التي تحظي اليوم بأهمية غير مسبوقة, لا سيما في هذه البقعة من العالم حيث تتوالي الحروب دون انقطاع منذ أكثر من نصف قرن, هذه القضية هي التي تحدد طبيعة دورنا وجوهره. إنه دور ##النساجين## الذين يعيدون وصل ما انقطع بين الناس:
علينا باديء ذي بدء أن نعيد نسج الروابط في ما بيننا كمسيحيين, بطي صفحة النزاعات القاتلة, وأن نستهل ذلك بمراجعة أنفسنا وتنقية ذاكرتنا, وأن نسعي إلي توحيد كنائسنا في ##كنيسة العرب## التي تحدث عنها الأب يواكيم مبارك, والتي بإمكانها التعاون المخلص مع الإسلام لتجديد الشرق, هذا الشرق الإسلامي المسيحي, كما تستطيع إقامة علاقة أكثر توازنا مع الكنيسة الغربية التي ##تشعر اليوم بحاجة للعودة إلي الينابيع المشرقية (…) بعد أن أضحت هذه الكنيسة أكثر فلسفية وأكثر قانونية وأكثر تنظيما##.
من ثم علينا أن نعيد نسج روابطنا مع المسلمين, متحلين بشجاعة الاعتراف بمسئوليتنا المشتركة, مسيحيين ومسلمين, عن الحرب التي دمرت بلدنا. ذلك أن مثل هذا الاعتراف هو الذي يؤهلنا لمعانقة المستقبل.
كذلك علينا أن نساهم في إعادة نسج الروابط بين الطوائف اللبنانية جميعا, لا سيما بين المسلمين. ذلك أن غني مجتمعنا وأسلوب عيشه لا يتأتيان من مجرد المجاورة والمساكنة, بل من العيش المشترك الذي يتيح التفاعل الخلاق فيما بين مكوناته, ويجعل من لبنان بوتقة إنسانية نموذجية في زمن باتت قضية ##العيش المشترك##, في ظل المتغيرات الهائلة التي أحدثتها العولمة, تمثل تحديا جسيما للبشرية جمعاء.
علينا أيضا أن نساهم في إعادة نسج الروابط وتمتينها بين لبنان والعالم العربي, وذلك بالمشاركة النشطة في الجهود المبذولة من أجل نظام عربي جديد ونهضة عربية جديدة. إن مساهمة لبنان في هذا المجال يمكن أن تكون حاسمة. فلديه الكثير مما يقوله ويقدمه : لديه مدارسه, وجامعاته, ودور نشره, وصحافته, ومستشفياته, ومصارفه… ولديه قبل ذلك كله تجربته الديموقراطية الناطقة العربية في مجتمع شديد التنوع, كما لديه نموذج للخروج من ثقافة العنف يقدمه إلي شعوب المنطقة التي ما زالت تقتات علي عنف يومي.
علينا أخيرا المساهمة في تصويب وتمتين العلاقة بين العالمين العربي والغربي, علي أساس مقاربة ذات أبعاد ثلاثة:
_ بعد السلام, استنادا إلي مبادرة السلام العربية التي انطلقت من قمة بيروت (2002) وتأكدت في قمة الرياض (2007) وأعاد تأكيدها الرئيس أوباما أثناء خطابه الشهير في جامعة القاهرة (4 يونيه 2009).
_ بعد الحوار بين الديانات التوحيدية الكبري الثلاث, والذي شهد انطلاقة مميزة علي أثر اللقاء بين رأس الكنيسة الكاثوليكية قداسة البابا بينيديكتوس السادس عشر وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز, ثم تطور بانعقاد الاجتماع الرفيع المستوي في مقر الجمعية العمومية للأمم المتحدة بدعوة من أمينها العام تحت عنوان ##حوار الثقافات والأديان من أجل السلام## (12 ديسمبر 2008) والذي أعقب مؤتمر مدريد برعاية العاهل السعودي تحت العنوان ذاته.
_ بعد متوسطي, حيث يستطيع العرب أن يقدموا نموذجا لخبرة أصيلة في العيش المشترك ترقي الي تجربة مضيئة في تاريخهم, ألا وهي تجربة الأندلس.
علي قاعدة هذه الالتزامات الأخلاقية والثقافية والوطنية والإنسانية نستطيع, نحن المسيحيين, أن نأمل في إستعادة الدور الذي كان لنا, وأن نشيد مع اللبنانيين الآخرين مستقبل سلام لجميعنا, علي أساس ثقافة الوصل, فنعود بذلك إلي معانقة ##الحلم اللبناني## الذي أبصر النور ذات يوم من عام .2005
عن جريدة النهار