تستذكر المواطنة الأمريكية أرين هوبسون ذات الأعوام التسعة والثمانين مشاهد ضنك العيش والشدة التي سادت فترة الكساد الكبير في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي, وتعود بذاكرتها إلي سيل الباعة المتجولين من الرجال الذين كانوا يحاولون بيع التفاح علي أرصفة حيها المتواضع من أحياء واشنطن.
تمكنت أمها آنذاك من كسب بعض المال لإطعام أسرتها من عملها بغسل ملابس الناس. وكان لتكسب الأم الرزق منفعة أخري وفرت لأرين وأخوتها وأخواتها الأربعة الكساء, إذ كما تقول أرين ##كان الناس الذين تغسل لهم أمي الملابس يعطونها بعض الملابس.##
واليوم, فيما يرتفع معدل البطالة ويشتد الركود الاقتصادي, تزداد أعداد الناس المتسائلين عما إذا كانت الولايات المتحدة سائرة في اتجاه تكرار الكساد الكبير حين أصبح ربع القوة العاملة عاطلا عن العمل, وسقط ملايين الأمريكيين في براثن الفقر.
تبين من استطلاع أجرته مؤسسة الأبحاث ودراسات الآراء التابعة لشبكة سي إن إن الإخبارية أن 45 بالمئة من الذين جري استطلاعهم في دراسة أجريت في 17 مارس, يرون أن من المحتمل أن يطرأ خلال سنة كساد مثل الذي شهدته فترة الثلاثينيات. وتشكل هذه النسبة زيادة بلغت 7 بالمئة عن نسبة 38 بالمئة ممن جري استطلاعهم في ديسمبر .2008
وتعريف الكساد هو: تراجع اقتصادي ينخفض فيه إجمالي الناتج المحلي, الذي يعتبر مقياسا معياريا لكل السلع والبضائع والخدمات التي تنتجها البلاد, بمعدل يتجاوز 10 بالمئة. وأما الركود فهو تراجع انخفاضي اقتصادي أخف وطأة وأقصر زمنا. ولم تواجه الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية ما يمكن أن يرقي إلي مرتبة الكساد في أبعد الحدود. وقد حدثت أشد ضائقة اقتصادية في عام 1973 ودامت حتي عام 1975 عندما انخفض معدل إجمالي الناتج المحلي بنسبة 4.9 بالمئة.
ويستبعد كبار المسئولين الأمريكيين احتمال الكساد ويقولون إن خطره بعيد. فقد أعلن رئيس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) بن برنانكه في مقابلة نادرة في برنامج ##60 دقيقة## علي شبكة سي بي إس أنه تم ##تجنب## خطر الكساد.
ورغم ذلك, فإن الأزمة الحالية تحمل من ملامح الشبه بكساد الثلاثينات ما يدعو إلي الإنزعاج. فكما حدث آنذاك, حدث الآن انهيار المصارف وأصبح الائتمان والإقراض نادرين ليسا في متناول مؤسسات الأعمال التجارية والمستهلكين علي السواء. وهبطت آنذاك والآن أسعار الأسهم والسندات هبوطا حادا في أسواق المال مما بدد ثروات المستثمرين مالكي الأسهم وأموالهم. وانخفض مؤشر داو جونز الصناعي خلال الشهور السبعة عشر الماضية بنسبة 52 بالمئة. وانخفضت أسعار الأسهم عن معدل أعلي ثلاث سنوات بعد العام 1929 بنسبة 89 بالمئة.
وصرحت كريستينا رومر, وهي من كبار مستشاري الرئيس أوباما الاقتصاديين, بأن الكارثة الماضية كانت أسوأ بمراحل. وقارنت رومر بين عدد من المؤشرات والدلائل الأساسية لإثبات وجهة نظرها. ومنها أن معدل البطالة الآن وصل إلي 8.1 بالمئة في حين بلغ نحو 25 بالمئة في الثلاثينيات. ولم يكن في الثلاثينيات إلا القليل من وسائل الحماية الاجتماعية المتوفرة اليوم لامتصاص التأثير وتخفيف وطأة فقدان الوظائف والأعمال. وبالمقابل, انخفض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2 بالمئة عن معدله الأعلي, فيما هبط في فترة الكساد بنسبة بلغت أكثر من 25 بالمئة في الفترة بين عامين 1929 و.1933
ثم إن هناك اختلافا رئيسيا بين الأزمتين تمثل في رد الحكومة والتصدي لها. ويقول معظم الاقتصاديين إن السياسات التي انتهجتها واشنطن خلال السنوات الأولي من الكساد الكبير زادت التراجع الاقتصادي سوءا. فمع تباطؤ الاقتصاد زادت مصاعب المصارف في تحصيل الديون وأصاب الناس الهلع فسحبوا ودائعهم متسببين في انهيار نحو 50 بالمئة من البنوك. وكان من نتيجة ذلك انهيار الإنتاج والإقراض والثروات الخاصة.
اتخذت الحكومة في السنوات الأولي التي تلت بدء الكساد في عام 1929 نهجا محافظا مقترة في العرض النقدي متسببة في إفلاس البنوك, ولم تتخذ خطوات أو تدابير لتنشيط الاقتصاد. وتقول شارين أوهالوران, أستاذة الاقتصاد السياسي في جامعة كولومبيا بنيويورك, إن الرئيس هيربرت هوفر ## كان يعتقد أن التراجع مفيد وأن من شأنه أن يطهر النشاطات غير المنتجة.##
ولم تتغير تلك السياسة في الإحجام عن العمل إلا بحلول عام 1933 عندما أصبح فرانكلين روزفلت رئيسا للبلاد وأوجد ما سمي ##البرنامج الجديد## وهو سياسة قامت علي توسع كبير في الإنفاق الحكومي أدي إلي خلق الأعمال وتحريك بعض النشاط الاقتصادي.
وأما في مواجهة الأزمة الجديدة فقد اضطلعت الحكومة بالقيام بدور تنشيطي. ففي خريف عام 2008 طلع المسئولون بتحذيرات تنذر بأن الامتناع عن اتخاذ تدابير قد يؤدي إلي كساد كبير آخر. واستجابت الحكومة بتخصيص مليارات الدولارات لإنقاذ المصارف وشركات التأمين. وتوسع الرئيس أوباما منذ توليه الرئاسة في يناير في سياسة الإنفاق وعرض برنامجا ضخما للمحفزات الاقتصادية.
ثمة وجه آخر من أوجه الاختلاف بين ما حدث في الثلاثينيات وما يجري الآن, وهو أن حكومة الولايات المتحدة وشركاءها التجاريين يكافحون الاتجاهات الحمائية, بينما عمد كثير من الدول, بما فيها الولايات المتحدة, إلي محاولة حماية صناعاتها بزيادة التعرفات والرسوم علي السلع المستوردة عندما طرأ الكساد الكبير. وكان من شأن تلك السياسة أن أدت إلي هبوط شديد مدمر في التجارة العالمية تسبب في زيادة التراجع الاقتصادي وإطالته.
صحيح أن التجارة العالمية اليوم بدأت تنكمش لأول مرة منذ 30 عاما, لكن ما يحدث مختلف عن الثلاثينيات من حيث إن الحكومات تحاول اليوم تنسيق سياساتها ووعدت بعدم الاستسلام لإغراءات الحماية وضغوطها.
وقالت كريستينا رومر مساعدة الرئيس الاقتصادية إن الأسلوب التدخلي يؤدي إلي تقليل شديد من خطر كساد جديد. ثم خلصت إلي القول: ##إن لنا أيضا رئيسا جديدا يقول _إنني أواجه هذا (الركود) بكل ما لدي من إمكانيات##.
يو. إس. جورنال