في 24 ديسمبر 2008 رحل أستاذ العلوم السياسية البارز صامويل هنتنجتون عن عمر يناهز 81 عاما(18 أبريل 1927-24 ديسمبر 2008) بعد أن احدثت كتاباته العلمية جدلا واسعا علي مستوي العالم, خاصة كتابيه ## صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي## الصادر في عام 1996, وكتابه ## من نحن؟: التحديات للهوية القومية الأمريكية## الصادر عام .2004 وعندما نشر كتابه صدام الحضارات في صيف 1993 في صورة مقالة في مجلة الشئون الخارجية الأمريكية, أثار أكبر قدر من التعليقات والحوارات منذ أربعينيات القرن الماضي,وفقا لما رصدته المجلة.
سلك صامويل هنتنجتون نفس طريق المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي(14 أبريل 1889-12 أكتوبر 1975) باتخاذه من الحضارات وليس الدول أو الأيدولوجيات مجالا لدراسته, وكان توينبي يري أن الحضارات هي المجالات المعقولة لدراسة التاريخ, وهنتنجتون أيضا يري الحضارات وليس الدول مجالا لدراسة مستقبل الصراعات الكونية.
كما هو معلوم ركز هنتنجتون علي التحديات التي تواجه الحضارة الغربية وخاصة من الحضارتين الإسلامية والصينية, وبعد 11 سبتمبر كتب صامويل هنتنجتون مقالة مشهورة أخري في عدد مجلة النيوزويك السنوي في ديسمبر 2001 بعنوان ## عصر حروب المسلمين## مكررا رؤيته التي سبق أن طرحها في كتابه ومفسرا لأبعاد هذه الحروب بما يعني أن نظريته قد تحققت, وأن حروب المسلمين ستشكل الملمح الرئيسي للقرن الحادي والعشرين.
والسؤال: هل ستتحقق نبوءة هنتنجتون فيما يتعلق بحرب واسعة بين الغرب والإسلام؟
في تصوري الإجابة نعم, والعملية مسألة وقت, فالحرب القادمة ستندلع من الشرق الأوسط لتتسع إلي حرب عالمية ويكون الدين عاملا رئيسيا فيها, والإسرائيليين طرفا رئيسيا في هذه الحرب, لتنضم كثير من الدول الإسلامية ضد إسرائيل, وفي المقابل تنضم العديد من دول الغرب دفاعا عن إسرائيل… لينتهي الأمر بحرب عالمية واسعة .
هذه قراءة سياسية لمستقبل الصراع في الشرق الأوسط, ومن ثم الصراع بين الدول الإسلامية والغرب, وهي تختلف عن بعض القراءات الدينية التي تري معركة هرمجدون علي الأبواب بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية, وقد اطلعت مؤخرا علي احد هذه الكتب الذي يصف هذه المعركة, ويتنبأ بأنه سيتم اغتيال نتانياهو عام 2011 لتندلع هذه الحرب الواسعة.
قراءة هنتنجتون تنبع من قراءة الأوضاع السياسية وليس الدينية, حيث ذكر قبل رحيله في حوار مع صحيفة ##دي فيليت## الألمانية أن العلاقات بين دول العالم سوف تشهد تغيرا في طبيعتها في السنوات العشر القادمة علي أقصي تقدير.
يري هنتنجتون أن السياسة الكونية المعاصرة تتمثل الآن في عصر حروب المسلمين, وإن المسلمين يحاربون بعضهم البعض ويحاربون غير المسلمين كذلك أكثر مما تقوم به الشعوب الأخري. وأن حروب المسلمين هي الشغل الأساسي للصراع الدولي, وهي حروب متنوعة, منها حروب الإرهاب, حروب العصابات والقرصنة, حروب أهلية… وقد يتخذ هذا العنف وهذه الحروب أبعادا تصل بها إلي صراع رئيسي وحيد بين الإسلام والغرب أو بين الإسلام وباقي العالم.
ولكي يشرح ويوضح هنتنجتون نظريته فانه تناول ما يراه حقائق عن الحضارة الإسلامية المعاصرة حسب وصفه. نلخص أهم ما قاله:
* المسيحية تنتشر أساسا عن طريق التحول, الإسلام ينتشر عن طريق التحول والتناسل…
* الأصوليون الإسلاميون في العالم كله هم وحدهم الذين يرفضون التحديث والتغريب.
* العالم الإسلامي لا يقدم بديلا للحداثة الغربية.
* رفض الأصوليون لكل شئ يظنون انه ضد الإسلام حتي ولو كان التحديث.
* لم يعد الهدف تحديث الإسلام بل أسلمة الحداثة عبر الصحوة الإسلامية.
* الدين يتسلم زمام الأيدولوجية والقومية الدينية تحل محل القومية العلمانية.
* الولاء عند الأصوليين للدين أولا, لأن فكرة القومية تتنافي مع فكرة الحاكمية والولاء لله.
* صراع القرن العشرين بين الديموقراطية الغربية والماركسية ليس سوي ظاهرة سطحية وزائلة إذا ما قورن بعلاقة الصراع العميق بين الإسلام والمسيحية الغربية.
* من المرجح أن تكون علاقات الغرب بالإسلام والصين متوترة علي نحو ثابت وعدائية جدا في معظم الأحيان.
* الصحوة الإسلامية جاءت من التعبئة الاجتماعية والتزايد السكاني والفقر والفاشية والنزوح الكبير من الريف إلي المدن للسكني في الأحياء العشوائية.
* الصحوة الإسلامية تيار عام وليست تطرفا, متغلغلة وليست منعزلة. والصحوة أثرت علي المسلمين في كل دولة, وعلي معظم جوانب المجتمع والسياسة في معظم الدول الإسلامية.
* الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك, وقد فعل ذلك مرتين علي الأقل.
* لمدة ما يقرب من ألف سنة, منذ دخول العرب أسبانيا وحتي الحصار التركي لفيينا, كانت اوروبا تحت تهديد مستمر من الحضارة الإسلامية.
* المسلمون في كل أنحاء العالم يشعرون بالإحساس المسكر بالقوة.
في أمريكا أجري استطلاع واسع للرأي تناول 3500 مثقف أمريكي معروف,وكان السؤال: هل الصحوة الإسلامية خطر علي الغرب؟ وجاءت الإجابة بنعم من 61% من العينة.
وبعد هذه الافتراضات يقودنا هنتنجتون إلي ملامح العنف القادم من العالم الإسلامي:
1-50% من الحروب بين ثنائيات من الدول ذات أديان بين عامي 1820 حتي 1929 كانت حروب بين مسلمين ومسيحيين.
2-في منتصف التسعينيات كانت هناك 19 صراعا بين المسلمين والمسيحيين من مجمل 28 صراعا بين المسلمين وغيرهم عبر حروب خطوط التقسيم الحضاري.
3-في كل العالم علي امتداد حدود الإسلام يجد أن الأصوليين المسلمين لهم مشكلات في العيش مع جيرانهم بسلام.
4-شارك المسلمون في 26 صراعا من إجمالي 50 صراعا عرقيا سياسيا في الفترة ما بين 1993 و .1994
4-كانت هناك صراعات بين مسلمين وأطراف أخري من حضارات أخري ثلاثة أمثال من كان بين كل الحضارات غير الإسلامية, كما كانت الصراعات داخل الإسلام نفسه كثيرة وأكثر مما يدور داخل أية حضارة أخري.
5-الصراعات التي كان المسلمون طرفا فيها كانت دائما كثيرة الضحايا. الصراعات الست الكبري التي زاد ضحاياها عن مائتي الف قتيل كان ثلاثة منها بين مسلمين وغير مسلمين.
6- حددت نيويورك تايمز 48 موقعا كان يدور بها 59 صراعا عرقيا عام 1993, نصف هذه الصراعات كانت بين مسلمين وغير مسلمين أو بين المسلمين أنفسهم.
7- الدول الإسلامية أيضا لها ميل شديد لاستخدام العنف في الأزمات الدولية, وقد استخدمت العنف في 76 صراعا من مجمل 142 صراعا, وفي 25 صراعا كان العنف هو الوسيلة الرئيسية للتعامل.
8-حسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية فان ثمة 22 صراعا مسلحا عام 2000, كان المسلمون طرفا في أكثر من ثلث هذا العدد رغم أنهم يشكلون خمس سكان العالم فقط.
هذا تلخيص مختصر لرؤية عالم السياسة الأمريكي الراحل صامويل هنتنجتون والذي وصفه تلميذه فريد زكريا في مقالة له بصحيفة الواشنطن بوست بتاريخ 24 يناير 2009 بأنه صاحب بصيرة وصاحب مبادئ. وقال زكريا ##لم أر سام هنتنجتون يفعل أي شئ مخادع أو شرير أو يضحي بمبادئه من أجل السلطة أو التقرب منها أو المنفعة. لقد عاش وفقا لمبادئ الأنجلو بروتستانت التي تمسك بها: الاجتهاد والأمانة والعدل والشجاعة والولاء والوطنية##.
عاش صامويل هنتنجتون 81 عاما منها 57 عاما يدرس لطلبته العلوم السياسية منذ أن كان عمره 23 عاما حيث تخرج من جامعة ييل العريقة وعمره 18 عاما وألف,وشارك في تأليف 17 كتابا و90 مقالا علميا. ورغم علمه الغزير لم تأت شهرته إلا من كتابه صدام الحضارات.
ونأمل ألا تتحقق نبوءة هنتنجتون, ولكن للأسف كل الدلائل تشير إلي قرب حدوثها.
[email protected]