نيرودا:أين هو ميدانروبين داريوفي بونيوس أيرس؟
لوركا:أين هو تمثال روبين داريو؟
نيرودا:كان يعشق الحدائق,فأين حقيقة روبين داريو؟
لوركا:أين محل الزهور الذي يحمل اسم روبين داريو؟
نيرودا:أين شجرة التفاح وتفاحات روبين داريو؟
لوركا:أين يد روبين داريو المقطوعة؟
هذه كلمات كل من الشاعرين:بابلو نيرودا الشيلي, وفيدريكو جارتيا لوركا الإسباني في محاضرتهما سويا حول الشاعرروبين داريوذلك الشاعر الذي أحدث ثورة عميقة في الشعر الإسباني آنذاك ,وعبر في الوقت ذاته عن شغفه العميق بالأرجنتين ,وبدا للشاعرين أن المدينة قد نسيتهما.
وإذا كانت هذه المناظرة أو القطعة الأدبية الفريدة التي آخت بينهما علي مدي السنين والقرونقدمت بنادي القلم بالأرجنتين يوم 20 نوفمبر عام 21934 فها هو معهد ثربانتس يعيدها علي مسامعنا ومشاعرنا بالتعاون مع نادي القلم المصري في أول نشاط له بعد تولي الكاتبة الصحفية اقبال بركة رئاسته خلفا للراحلة الكبيرة د. فاطمة موسي.وشارك في ذلك اللقاء:أنطونيو لوبث مارتينيثسفير إسبانيا بمصر,وإجناثيو جونثاليث سيرانوسفير شيلي بمصر ولويس خابير رويث سيزامدير معهد تربانتس بالقاهرة والشاعر سمير عبد الباقي .
كان يا ماكان
وفي عودة للزمن الجميل حيث تم ذلك اللقاء قال إجناثيو جونثا ليثسفير شيلي بمصر:
كانت الحكايات التي تحكي لي في طفولتي تبدأ بثلاث كلمات سحرية كان ياماكان…ففي اللغات الأخري مثل الفرنسية أو الإنجليزية,وربما تضمنتها العربية,كانت توجد عبارات أو مفردات شبيهة.كانت هذه الكلمات البسيطة تفتح باب عالم من الخيال مليء بالحوريات والأمراء والأبطال والبسطاء,أي تدخل في دائرة المغامرات والأحلام التي لازالت أصداؤها تتردد في مخيلتنا كأطفال-بالغين.
أتينا اليوم لنحكي حكاية…حكاية تتسم بالعذوبة والمرارة مثلها مثل الحياةكان ياما كانكان هناك شابان وشاعران عظيمان أحدهمالوركاالذي خرج من أعماق إسبانيا,إسبانيا غرناطة,تلك المدينة التي هي خلاصة الحضارات أما الآخر فهو بابلو نيروداالذي جاء من أعماق شيلي هو أيضا أي منأراوكانياتلك الأرض التي ظلت طوال قرون ثلاثة مسرحا لمواجهات بطولية بين قاطن تلك الأراضي غير المروض أولئك الإسبان الكونيين الذين انتهي بهم الأمر إلي إنجاب وطني الذي أعيش فيه اليوم.
شهدت مدينة بونيوس أيرس ذلك اللقاء الأول الذي كان بداية صداقة بين شاعرينا.واستقبلت هذه العاصمة التي هي منارة ثقافية فريدة في أمريكا اللاتينيةلوركاالذي كان يبلغ من العمر آنذاك 35عاما والذي بدأ مساره علي درب الشهرة الأدبية منذ سنوات مضت,وكان سبب زيارته التي امتدت لستة أشهر حضور حفلات تقديم عمله المسرحي الخالدالزفاف الدامي.
تحدثإيان سميثكاتب سيرة لوركا عنه قائلاتابعت الصحف والدوريات أخبار لوركا منذ اليوم الأول لوصوله إلي العاصمة الأرجنتينية ,وبلغ نجاحه شأنا لم يبلغه أي كاتب إسباني آخر في الأرجنتين ,وقد تحدث عنه نيرودا قائلا:إنها شهرة لم يبلغها شاعر قبله من شعراء الإسبانية وقبل وصول لوركا إلي بوينوس أيرسبما يقرب من شهرين كان نيرودا قد سبقه إليها بصفته قنصلا لشيلي في هذه المدينة.يا لتصاريف القدر!كان عمر نيرودا آنذاك 29عاما وقد جاء من الشرق الأقصي بعد أن أدي المهمة نفسها,وكان يحمل في جعبته كتابه عشرون قصيدة حب وأغنية فاقدة الأملمقام علي الأرضوأخذ نجمه يصعد بقوة وقاده السلم إلي المجد وإلي جائزة نوبل في الآداب عام .1971
اعترف أنني عشت
التقي نيرودا ولوركا لأول مرة في منزل شعراء وأصدقاء مشتركين واستمرت الصداقة لمدة ثلاث سنوات في عالم الأحياء وكان ذلك في اليوم الثاني لوصول لوركا بحرا إلي بوينوس أيرس!كان الإعجاب والشوق للقاء الشعلة التي جمعت بينهما.
عبر نيرودا في سيرته الذاتيةأعترف أنني عشتعن دهشته:يا له من شاعر!لم أر شاعرا مثله يجمع بين خفة الروح والعبقرية والقلب المجنح والشلال الصافي ,كان لوركا شيطان الشعر المبذر ,وكان السعادة التي تنتشر بين الجميع ,إذ يأخذها إلي صدره ثم يصدر السعادة بالحياة نورا كأنه كوكب,يجمع بين البراءة والفكاهة,والكونية والمحلية,وهو أيضا موسيقي فريد,يعشق الدلع ويفزع ويتشاءم.كان كأنه ملخص لكل عصور إسبانيا والإزدهار الشعبي.هو ثمرة عربية أندلسية يفوح عطرها ونورها في كل مكان في إسبانيا كأنها الياسمين,وهي ثمرة لاتكاد تراها أي العين,يا إلهي.
ويواصل نيرودالم أر إنسانا مثله بهذه العبقرية ولم يكن لي أخ أكثر مرحا وسعادة مثله,كان يضحك ويغني ويعزف الموسيقي ويقفز ويبتكر ويصدر عنه وميض .يا له من مسكين إذ كانت تتوفر لديه كل معطيات الدنيا..
نعود مرة أخري إلي إيان سميث كاتب سيرته:إذا ما أردنا دليلا جليا وواضحا علي الصداقة التي تجمع بين نيرودا ولوركا لوجدناه فيالخطاب سوياحول روبين داريوفقد أقيمت مأدبة 20 نوفمبر في محل يسمي بن كلوبوكانت الوليمة تكريما للشاعرين وهنا قررا أن يقدما للحضور مفاجأة.كان كلاهما شديد الإعجاب بروبين داريو الشاعر الذي أحدث ثورة عميقة في الشعر الإسباني آنذاك,وعبر في الوقت ذاته عن شغفه العميق بالأرجنتين وبدا للشاعرين أن المدينة قد نسيت روبين وهذا ليس بعدل ومن هنا اتفقا علي تقديم هذه المناظرة سوياحيث استوحياها من عالم مصارعه الثيران لتقريظ شاعر نيكاراجوا,روبين داريو.
قام نيرودا بدور الشرح والتذكرة بالظروف التي أثمرت هذا الخطاب لنسمعه وهو يقولأيها السادة,ربما لاتعرفون معني عبارةal alimonأنا أيضا لم أكن أعرفه .غير أن لوركا الشاعر الذي لايمل من الابتكار شرحها لي بقوله:يمكن لاثنين من مصارعي الثيران أن يصارعا الثور نفسه في آن معا وهما يستخدمان عباءة واحدة ,وهذه الطريقة هي واحدة من أخطر مشاهد مصارعة الثيران ومن هنا فنحن لا نشهدها إلا نادرا أي ليس أكثر من مرتين أو ثلاث علي مدي قرن من الزمان ,ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا مصارعان يشترط أن يكونا شقيقين أو أن تكون بينهما صلة قرابة هذا هو معني العبارة وهذا ما سنفعله سويا.
ويواصل نيروا وهذا ما فعلنا,لكن لم يكن أحد يعرف ذلك,فعندما نهضنا لتحية رئيس هذا النادي وتقديم الشكر علي المأدبة فقد فعلنا ذلك سويا مثلما يفعل المصارعان.
ولما كان الطعام موضوعا علي موائد متفرقة فقد وقف فيدريكو علي أحد الأطراف وأنا علي الطرف الآخر,لدرجة أن الناس كانوا يجذبونني منالجاكتةلأجلس ظنا منهم أن هناك خطأ ما,وكانوا يفعلون الشيء نفسه مع فيدريكو بدأنا إذن الحديث سويا.
نواصل الحكاية: بعد مرور عام علي اللقاء الذي أشرت إليه,أي من بداية 1934 تم تعيين نيرودا قنصلا لشيلي في مدريد وتكفل لوركا هناك بتقويم هذا الصديق إلي مجموعة من الكتاب والفنانين والمبدعين التي لاتتكرر إلا نادرا والتي تنجبهم إسبانيا العتيقة من حين لآخر .وظل الأمر بينهما علي هذا الحال طوال عامين,حتي شهر أغسطس المشئوم لعام 1936 الشهر الذي اغتيل فيه لوركا علي أطراف مدينة غرناطة.وانضم نيرودا لمجموعة الشعراء التي كانت تضمألبرتيوميجل إيرنانديث ومانويل ألتو لاجيري,وبرجامين,وثرنودا,والكسندري,وجيين,وبدرو ساليناس.ويتذكر نيرودا تلك الفترة بقوله:في مدريد تلك!كنا نجوب الأحياء الفقيرة بحثا عن تلك المنازل التي كانوا يبيعون فيها الحصر والحلفا,وعن المنازل التي تبيع البراميل وعن جميع المنتجات الجافة في إسبانيا أي المواد التي تحمي قلب المدينة.
إسبانيا في القلب
غير أن هذا التعايش السحري ومدريد تلك التي عشقها نيرودا أصابهما التصدع الرهيب بحلول يوم 18يوليو .1936
وصف نيرودا الأحداث التي أدت إلي بداية الحرب الأهلية الإسبانية في رثاء رهيب بعنوانإسبانيا في القلب
لننصت إلي بعض هذه الأبيات:
إسبانيا في القلب
أشرح بعض الأشياء
سوف تسألون:وأين هو نبات الليلج؟
والميتافيزيقا التي تغطيها شقائق النعمان.
والمطر الذي كثيرا ما يبلل
كلماتها ويملؤها
بالفتحات والعصافير؟
سوف أقص عليكم كل مايحدث لي
كنت أعيش في حي
في مدريد,به أجراس كنائس
وساعات وأشجار
ومن هناك كنت أري
وجه قشتالة الجاف
كأنه محيط من الجلد
كان منزلي يسمي
منزل الزهور,ففي كل جزء منه
يبزغ نبات الغرنوق:
كان منزلا جميلا
به كلاب وغلمان
هل تتذكر يا راؤل؟
هل تتذكر يا رافيل؟
هل تتذكر يا لوركا
وقد وراك الثري
منزلي الذي به شرفات تضربها
شمس يونية فتتفتح الزهور في فمك؟
يا شقيقي,ياشقيقي!
وذات صباح انتشرت النار في كل شيء
وذات صباح كانت النار
تخرج من بطن الأرض
تلتهم كائنات
وأصبحت منذ ذلك الحين نارا
بارودا
ودما منذ ذلك الحين
قاطعو طرق مع الطائرات
قاطعو طرق مع رهبان يرتدون الأسود يباركون
ويأتون جوا لقتل الأطفال
ودم الأطفال ينساب في الشوارع
كأنه دم أطفال
**
أيها الجنرالات
الخونة:
انظروا إلي منزلي الذي مات
انظروا إلي إسبانيا التي تحطمت:
لكن من تحت كل منزل مهدم يخرج معدن من نار
بدلا من الزهور
وفي كل جزء من إسبانيا
تخرج إسبانيا
ومن كل طفل ميت تظهر بندقية لها عينان
ومن كل جريمة تولد الرصاصات
التي ستنفذ يوما ما
في صدوركم
سوف تسألون:لماذا لايحدثنا شعره
عن الحلم والأوراق
والبراكين الكبري لشيلي؟
**
تعالوا لتروا الدم في الشوارع
تعالوا لتروا
الدم في الشوارع
تعالوا لتروا الدم في الشوارع!