يعتبر نوبار نو باريان الأرمني الأصل هو الشخصية الأكثر ظهورا خلال سنوات القرن التاسع عشر, يقول عنه محللون غربيون: إنه رجل الدولة الأوحد الذي جاء به الشرق, وأنه أول من دعا إلي مصر للمصريين.
ولد في قرية بإحدي الولايات الأرمنية التابعة للفرس وقتها في 4 يناير 1825, وحدثت ثورة في تلك الفترة فقرر جده الهجرة قاصدا تركيا وبالتحديد أزمير وتم تعيين والده معتمدا سياسيا لمحمد علي في الأناضول.
التحق نوبار بمدرسة ابتدائية بجنيف في سويسرا ثم دخل مع شقيقه أراكيل معهد سوزير علي مقربة من مدينة تولوز الفرنسية, حيث أتقن اللغة الفرنسية ثم دعاه خاله بوغوص بك يوسفيان للحضور إلي مصر والالتحاق بالعمل فيها, كما أوصاه خاله قائلا: ستلتحق بقلم المترجمين, ولكن يجب عليك أن تتقن اللغة التركية لأن ذلك أهم شروط نجاحك في المستقبل. هكذا كان المسيو نوبار يتحدث عشر لغات ليس من بينها العربية, وتدرج في العمل كسكرتير لخاله ثم من موظف في قلم المترجمين في ديوان الوالي إلي السكرتير الخاص لإبراهيم باشا إلي مدير للسكك الحديدية والجمارك, وصولا لوزير الأشغال والخارجية, ثم إلي منصب رئيس وزراء مصر.
وتكشف مذكراته التي كتبت بالفرنسية عن ثروة هائلة من الوقائع حول الأمراء والحكام في بيت محمد علي, حيث عمل معهم وعرفهم عن قرب, ويري نبيل زكي في كتابه نوبار في مصر. أنه كان من عموم الجال الذين لعبوا دورا محوريا في أحداث القرون السابقة في مصر لم يتركوا وراءهم أية صفحات تلقي الضوء علي تاريخهم.
كما تظهر هذه المذكرات -حسب محمد رفعت الإمام- مؤلف كتاب تاريخ الجالية الأرمنية في مصر: مدي نجاح المترجمين في التقرب إلي عقول الحكام ومعرفة ما يدور فيها.
في 1850 تعرف نوبار بأسرة أراميان في الأستانة ومنها تزوج بابنة عميدها (كيفورك بك أرمانيان) أحد كبار الأرمن هناك, وهو في الرابعة والعشرين من عمره.. وكان زواجا موفقا للغاية, حيث كانت زوجته تتحدث عدة لغات مثله ورافقته في مواجهة دسائس الحكام.
أول رئيس نظار في مصر
كان الأرمن قد قاموا بدور مهم في مجال العلاقات بين مصر والأستانة وأوربا, فتقلدوا المناصب في التجارة والخارجية, أما نوبار باشا أول ناظر للأشغال العمومية (1864- 1865) ثم تولي نظارة الخارجية في (1866 حتي 1874), وتحت إدارته تأسست نظارة التجارة .1875 إلي أن اعتلي رئاسة أول نظارة مسئولة في تاريخ مصر (أول رئيس وزراء) ثلاث مرات الأولي في (1878 حتي 1879), ثم تشكيلة نظارته الثانية خلال حكم الخديو توفيق (1884 حتي 1888) والمرة الأخيرة خلال فترة حكم عباس حلمي الثاني منذ (1894 حتي 1895), وخلال رئاسته لهذه النظارة حدثت مشادات عديدة بين الخديو إسماعيل من جهة, وبين الأستانة والدول الأوربية الراغبة في الاستفادة من خيرات البلاد آنذاك.
جدير بالذكر أن مسألة إخلاء السودان تعد أكبر الانتقادات التي وجهت إلي نظارته الثانية نظرا لأهمية السودان السياسية والاستراتيجية بالنسبة لمصر.
كما لم يكن نوبار مواليا للباب العالي, إذ رفض كثيرا عروض ساستها بتولي بعض المناصب العامة في الأستانة, مرتكزا علي أنه لا يمكن التخلي عن مصر وظل يفضل دوما أن يكون شخصا عاديا في مصر.
لماذا أنشأ نوبار المحاكم المختلطة؟
وعن إنشاء المحاكم المختلطة علي يده, والتي ظل يتعرض للنقد من أجلها لدي الرأي العام المصري.. يقول في مذكراته: إنه يمكن للإنسان من الوجهة الأدبية أن يقول إن تنظيم القضاء المختلط أدي إلي ثورة حقيقية في العقول لأن الأهالي رأوا لأول مرة في حياتهم منظمة لديها من القوة ما يكفي لمقاومة أعمال الأحكام الاستبدادية..
وقبل تأسيسها, كان الأجانب يرهقون المصريين, بينما أبواب العدالة موصدة أمام المصريين.
ويري ميريت بطرس غالي في تقديم مذكرات نوبار باشا أن تلك المحاكم كان يمكن أن تقدم خدمات أكبر, لو كان صاحب فكرتها نجح في تأسيسها قبل ذلك ببضع سنوات.
وفي فقرة من كتاب الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد للدكتور عبداللطيف حمزة بعنوان مصر الحديثة قال فيه: نوبار رجل أرمني مسيحي ظفر بقدر كبير من الثقافة الفرنسية, وساعده إتقانه للغة الفرنسية علي اصطناع الأساليب التي كان يصطنعها الساسة في القرن الثامن عشر.
وهو أول من أدخل نظم الحكم الدستورية في مصرفألف أول وزارة مسئولة برئاسته في عهد إسماعيل 1878.
هذا وقد شنت بعض الجرائد المصرية حملة عنيفة ضده إلا أنها لم تنكر أنه من أهم الشخصيات التي اتسمت بالحنو علي المصريين.
لقد انسحب نهائيا من الحياة العامة في نوفمبر 1895 وبدأ يعاني من أمراض الشيخوخة ومن حادث أصيب به في ساقه 1894 وعاش معظم الوقت في باريس, ولكنه كان يردد أن كل انشغاله العودة إلي مصر وأهلها الذي يقول عنهم: أحبوني, وأطلقوا علي اسم أبو الفلاح.
توفي نوبار باشا نوباريان في 14 يناير 1899 وسط عائلته, بعد حوالي خمس سنوات من الانتهاء من كتابة مذكراته التي ظلت بين أيدي أسرته حتي 1983 بعد أن زالت العقبات التي تحول دون نشرها.
المصادر:
1- نوبار في مصر كتاب للأستاذ نبيل زكي.
2- تاريخ الحياة الأرمنية في مصر تأليف: الأستاذ محمد رفعت الإمام.
3- دراسة علي نوبار باشا والسياسة المصرية -أعدتها: غادة خميس موسي.
4- كتاب علي يوسف للدكتور عبداللطيف حمزة.