يؤمن المسيحيون شرقا وغربا بأن ميلاد يسوع ليس ميلادا لطفل عادي ولكنه ميلاد للكلمة (يو1:14) السؤال القديم الجديد هو ما السبب وراء ميلاد الكلمة وهل هناك مبررات لهذه المبادرة اللاهوتية؟ السبب هو أن المسافة بين كلمة الله وكلام الناس اتسعت جدا واتسعت الفجوة بين لاهوت الكلمة وتدبير الكلمات وواقعيتها وصارت أزمة كيانية كبيرة بين الكلمة وفعل الكلمة أو بين الكلمة الفاعلة والكلمات الفارغة عبر عن هذه المأساة الوجودية بالمعني الكيركيجاردي تلميذ يسوع الغابر من تراث الانفصام بين القول والفعل إلي حضارة الاتحاد بين اللوغوس والحرية (لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل) رومية 7:19 ولعل الويلات التي كالها المسيح كلمة الله للكتبة والفريسيين إنما تركزت في النقد الحاد من إله وديع لهذه المسافة الرهيبة عند رجال الدين بين القول والفعل (الويل لكم أيها القادة العميان الذين يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل أنتم من خارج (الأقوال) تظهرون للناس أنكم أبرار ولكن من الداخل مشحونون رياء وإثما) متي 23.
وهكذا فقد الناس علي مر التاريخ التوحيد العملي لكلمة الله الواحدة وصار كلام الله عند المنتمين للتراث اليهودي والعبادات الكلامية وسيلة شرعية للهروب من المواجهة المصيرية مع الكلمة ولم يعد الإنسان يرتبط من لسانه سيف الفكر المنسكب في القلب كما يحيا المسيحيون الحقيقيون بل من معدته سيدة الأوجاع كما يقول بستان الرهبان مما دفع الله الكلمة إلي نبذ العبادات التي تزيف الكلمة ودعوة البشرية لإعادة الحوار (ذيالوغوس) معه علي أسس إنسانية جديدة (رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي صارت علي ثقلا مللت حملها فحين تبسطون أيديكم أستر وجهي عنكم وإن كثرتم الصلاة لا أسمع) الصدمة أن الله يرفض هنا عبادات سبق وأوحي بها لعبده موسي في كتب الشريعة التي هي عبارة عن تحويل كلمة الله إلي برنامج عبادات ولكن انحرفت العبادات عن مقاصد الكلمة وتحولت ديانة التوحيد للكلمة إلي عبادات تشتيت للكلمة أصل كل العبادات بالروح والحق علي حد تعبير خادم الكلمة العظيم في القبط كيرلس الإسكندري ويقول لنا علماء الكتاب المقدس إن الصدام هنا وقع بين الأنبياء الشاهدين للكلمة وبين كلمات الناس أي رجال الدين الذين يحجبون الحق بالباطل ويتسترون بالممارسات الدينية تلك الممارسات التي وإن أوصي بها الله كمرحلة ووسيلة في مشوار اكتشاف الحق إلا أنها صارت مهربا شرعيا من المواجهة المصيرية مع الله الكلمة ولهذا كرر الله دعوته للحوار علي أساس جديد (هلم نتحاجج يقول الرب) إش1:18 وكما صارت الكلمة عند المتدينين اليهود حاملين أمانة وشرف الوعد الإلهي إلي البشرية صارت كلمات بلا مضمون لاهوتي وحياتي فعلي الناصية الأخري من الثقافة الكونية عاشت الثقافة اليونانية أزمة كبيرة وتحولت الكلمات عند الفلاسفة والمثقفين اليونانيين من كلمات واعدات حاملات لبذار اللوغوس الإلهية والتي سماها العالم المسيحي الفيلسوف يوستينوس ومعه علماء مدرسة الإسكندرية الكلمات المبثوثة هنا وهناك (الإسبراماتيكوس لوغوس) والآتية من فيض حنان الله وعنايته بالبشر صارت كلمات الناس ووسيلة للانتفاخ بلا دسم وبلا كرامة كصنج يرن ونحاس يطن وخرج علي البشرية من امتهن الكلمة وصار الكلام حرفة وهم طبقة السوفسطائيين وهم من سماهم بولس بالحكماء الغير شرفاء والغير أقوياء (1كو1) صدرت الكلمة عند السوفسطائيين (وهي الكلمة اليونانية التي ترجمها فاندايك بالحكماء وهي لا تعني الحكماء بالمعني التقني المسيحي) مهنة امتهنت الكلمات وصيرتها رخيصة وصارت التقوي تجارة وتحولت الكلمات إلي كلمات الحكمة الغير حكيمة بل هي ليست الحكمة النازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية علي حد تعبير يعقوب أخو الرب ويتساءل بولس (أين الحكيم أين الكاتب أين مباحث بضم الميم وليس بفتحها هذا الدهر والكلمة هي الترجمة العربية للكلمة اليونانية اللوغوس ووسط هذا الفصام المأساوي بين الكلمة وفعل الكلمة وبين الوعد وتنفيذ الوعد وبين الكلمات والسلوكيات استحسن الله أن يخلص المؤمنين بفعالية الكلمة والمتكلون علي الوعود اللاهوتية والباكون الآن استحسن أن يخلصهم (بجهالة الكرازة) والجهالة ترجمة للكلمة اليونانية (موريا) والتي لا تعني إطلاقا أن الجهل نور بل تعني الطفولة البريئة التي تصدق الكلمات وتثق بها لقد صدمت السماء بميلاد الكلمة افتخار اليهود وثقافة اليونانيين وقدمت ثقافة الحوار البرئ.
صرخة احتجاج ضد فصل الكلمات عن معانيها ومقاصدها صرخة ضد ثقافة تجريف الكلمات ضد ثقافة تعرية الكلمات من ثوبها الإلهي فتصير الكلمات علي يد زبانية الفكر ومحترفي التحريف وكذابين ما يسمي بالزفة الثقافية تصير الكلمات بلا شرف وبلا كرامة.
الكلمات إذا ما انحرفت عن الله الكلمة وتباعدت عن كلمة الله تصير كلمة هاربة من وجه الله الكلمة الإنسان الأول حينما باع وعد وكلمة الله للشيطان صار عريانا من الكلمة وانفتحت عينا أبوينا الأولين وعلما أنهما عريانين من هذا العلم الجديد ليس هو علم معرفة الله الكلمة الخالقة بل هو مكر معرفة الذات العريانة من ثوب الحق وأصبحت الكلمة لا قيمة لها.
وهذا يعني ضمن ما يعني أن الوقوف علي أصول الكلمات وسبر أغوار اللغات الأصلية لكلمة الله ضرورة خلاصية لاكتشاف حلاوة الكلمات والتزام كرازي لنقلها للناس وأن الحوار مع الثقافات والأديان إنما حوار في عز وحب وغني الكلمة أي هو حوار لاهوتي بالضرورة وقتها ستعيد الكلمات عزتها وكرامتها وفعلها لأنه في البدء لم يكن مجرد الكلمة بل الكلمة والفعل الفعال علي حد تعبير جوته الألماني في ترجمته للعهد الجديد وهكذا أيضا إذا أتينا إلي الناس بعد الميلاد لا نأتيهم بكلام السفسطة المقنع (بضم الميم) بل في ملء إنجيل المسيح كلمة الله الوحيد حياة كل أحد. أن الحياة برمتها هي الكلمة الممتدة فعلا وعملا وإبداعا كما يقول الشاعر العربي مخاطبا الحياة:
أنا لا أحبك… من أجل نفسي… ولكن أحبك… حتي أجمل وجه الحياة… ولست أحبك… كي تتكاثر ذريتي… ولكن أحبك… كي تتكاثر ذرية الكلمات.
ندعو الله الكلمة أن يعيد إلي بلادنا هذه الأيام بالبركة بركة إعادة اكتشاف كرامة الكلمة الفعل في تاريخها العريق بالدعوات التي يرفعها عنا أب الآباء البابا شنودة الذي امتشق سيف الكلمة ليرد العالم إلي حضن الكلمة وبركة الخلاص آمين.