الخوف… والهاجس الأمني… من أبرز الأسباب التي دعت إلي إنشاء جهاز أمن الدولة والذي يملك تاريخا حافلا بأساليب وأدوات التعذيب التي ورثها عن الاستعمار, وليصبح عين الاحتلال والحاكم في البلاد ذلك رغم اختلاف مسمياته… تحت اسم مكتب الخدمة السرية و القلم السياسي.
وأمن الدولة أم ما يطلق عليه الأمن السياسي في مصر..
بدأ هذا الجهاز مع قيام الدولة الحديثة, وأكد د. عبد الوهاب بكر أنه تزامن مع إرادة الحاكم ورغبته في الحماية واستمرار نظامه, لذلك حرص علي تخصيص فئة من رجال الشرطة لملاحظة ومراقبة المواطنين الذين يخشي من تصرفاتها.
بدا هذا واضحا منذ عصر الخديوي إسماعيل, عندما اختلف مع الأمير فاضل وبعض أمراء العائلة المالكة وخشي علي عرشه منهم وبدأ يتجسس عليهم ويتلقي تقارير عنهم.
وبعد قيام الثورة العرابية, أصبح في جهاز الشرطة مسئولون لم يكن لهم مسمي معين ولكنهم اختصوا بتعقب العرابيين والتعرف علي أسرارهم.
ومع تولي توفيق أصبح هناك جهاز يختص بالأمن السياسي وكان يركز جهده علي الحدود بين مصر والسودان, وبعد قيام الثورة المهدية سمي بجهاز أمن الحدود, وبدأت التسمية الجديدة لجهاز الأمن السياسي تأخذ مكانها مع العقد الأول من القرن العشرين.
أما عن البداية الفعلية لهذا الجهاز يقول د. عبد الوهاب إنها كانت مع أول حوادث الاغتيال السياسي في مصر في فبراير 1910 عندما أطلق شاب مصري الرصاص علي رئيس وزراء مصر بطرس باشا غالي فأرداه قتيلا , فأنشئ جهاز في وزارة الداخلية المصرية تحت قيادة الإنجليز واشرافهم لتعقب الحركة الثورية في مصر. كان هذا الجهاز القمعي يطلق عليه في البداية اسم ##مكتب الخدمة السرية## ثم حمل عدة أسماء أخري فيما بعد ##القلم المخصوص## والقسم السياسي ##الغرفة ب## والإدارة الأوربية وكان وراء إنشائه ##السير الدون جورست## المعتمد البريطاني في مصر. كان يستقي معلوماته منه لإبلاغ حكومته بكل ما يحدث. أما الذي ترجمها وأخرجها إلي خبير التنفيذ فهو ##هارفي باشا## حكمدار مصر في ذلك الحين. كان المكتب يهتم بالجمعيات السياسية ذات النشاط الإرهابي والمعادي للإنجليز وللسراي والنظام الذي يحميه الإنجليز, وكانت تقارير ##مكتب الخدمة السرية## ترسل إلي دار المعتمد البريطاني والمندوب السامي ثم إلي لندن, ولم يقدم تقاريره أو نسخا منها إلي الحكومة المصرية إلا بعد تصريح فبراير 1923, وتؤكد الوثائق أن هذا المكتب قد أصبح يتبع السراي مباشرة والتقارير كانت ترسل إلي السراي دون المرور علي وزير الداخلية… من هنا كان دوره كعميل مزدوج.
وتم إجراء عملية تطهير لهذا بعد إزاحة فيليبدس مدير مكتب البوليس السياسي ومعاونيه سنة1917 نتيجة تقاضيه رشاوي ولفق عددا من القضايا, وتم تعيين شرفاء تنقصهم المعلومات القيقة عن عالم مصر الخفي, مما أدي إلي تزايد حوادث الاغتيال السياسي في نهاية 1919 وأنقسم الأمن في مصر إلي ##القسم المخصوص قلم ضبط أ## برئاسة المستر بنيت و##القسم السري الخصوصي, قلم ضبط ب## تابع بوليس مدينة القاهرة وترأسه أول مصري ##اليوزباشي سليم زكي##, واختص فرع ب بالأمن السياسي وتعقب المجرمين السياسيين… وأصبح أسمه ##القلم المخصوصي## الاسم السائد طوال فترة الثلاثينيات.
ويواصل مؤرخنا د. عبد الوهاب حديثه: وفي ظل الشعور بالإحباط أمام موجة جرائم الاغتيال السياسي للأجانب صدر قرار في مايو 1922 بإنشاء ##الإدارة الأوربية## تختص بالتعامل مع الجريمة السياسية في مصر. فهو جهاز بريطاني بحت لايدخله المصريون, ويعتمد علي أساليب مبتكرة في العمل السياسي, وظل خاضعا للوجود البريطاني تحت إشراف ##الميجور سانت جورج انسون## الذي عين لمواجهة النشاط الشيوعي في إلغاء وظيفته بعد توقيع معاهدة 1936 وبدأ تراجع الوجود البريطاني في أجهزة الأمن.
** وهنا يظهر أسلوب ##الإرادة الأوربية## الجديد, عند ألقي القبض علي ##محمد نجيب الهلباوي## الطالب بمدرسة الحقوق في قضية الشروع في قتل ##السلطان حسين كامل## عام 1915 وصدر الحكم بإعدامه ثم عدل إلي الاشغال الشاقة المؤبدة.
كان أسلوب الإدارة الجديدة في ذروة الاغتيالات السياسية هو محاولة استقلال التدهور النفسي الذي أصاب المحكوم عليهم في هذه الجريمة للوصول إلي أسرار الحوادث التي لم ينجح البوليس في ضبط فاعلها, وكان الهلباوي في حالة نفسية تسمح للإرادة الأوربية أن تجري تجربتا الجديدة علية, وأصبح الهلباوي مهيأ لعملية غسل مخ ويتحول بعدها من بطل قومي أي عميل سياسي, ويتضح أثر التوجيه المعنوي والمصل البوليس الذي حقق به الهلباوي عندما أولي بمعلومات توصل إلي الجناة في حادث قتل السروار. كان عاملا مهم في هذه القضية بعد حصوله علي عشرة آلاف جنيه والعفو الملكي عن جريمته السابقة.
قصة الهلباوي هو أحد الأساليب المبتكرة التي قامت عليها الإدارة الأوربية وقدمت للعمل السياسي المضاد دروسا كثيرة لأول مرة في تاريخ أجهزة الأمن السياسي منها انتقال نشاطها إلي خارج البلاد لتعقب الوطنيين المصريين وملاحقة نشاطهم وربطه بالعمل السياسي في الداخل. استخدام التعقب بغير رجال البوليس المخبرين الذين أصبحوا معروفين للطلبة وأنشئت فرقة من أفراد بعيدين كل البعد عن الشك للقيام بأعمال التعقب بأساليب عجيبة… نجحت لإدارة في القضاء علي أخطر وأنجح جماعة من جماعات العمل السياسي العنيف بفضل مديرها الكسندروكين بويد واقترن اسمه بكشف مقتل السردار وقضية ريا وسكينة وغيرها.
وأضاف: بدأت سلسلة الجرائم ضد أفراد الجيش البريطاني 1941 وواكب هذه الحوادث ظروف الحرب العالمية الثانية التي ألقت علي عاتق البوليس عبء مراقبة رعايا دول المحور في مصر وتحري نشاطهم, نجد أن جهاز الأمن السياسي قد تطور خلال هذه الفترة علي المستوي المركزي ظل (القسم المخصوصي) يقوم بدوره في تحريك أجهزة الأمن السياسي الفرعية والأشراف علي نشاطها, وعلي المستوي المحلي فقد تولي (قلم الضبط فرع ب) القيام بعمليات أعتقال الألمان, ويبدو أن حفظ العمل علي (الضبط فرع ب) كان متزايدا- فانشئ (القسم المخصوصي) في بوليس القاهرة 1940 لعمل التحريات الخاصة عن الإيطالين والألمان….
وعلي ضوء اختصاص (القسم المخصوصي) المحلي, فقد اختص (الضبط فرع ب) بالمسائل السياسية المحلية ومكافحة الشيوعية والنشاط العمالي, وخلال وزارة النحاس السادسة 1942 أنشئ مكتب للبوليس السياسي برئاسة مجلس الوزاراء والذي ظل قائما حتي جاءت حكومة أحمد ماهر باشا 1944 ودمرت المكتب ونكلت برجاله في إجراء معتاد للحكومات التي سقطت.
ويستطرد د. عبد الوهاب: تشابكت اهتمامات جهاز الأمن السياسي وتعقدت بسبب تعدد الأنشطة والتيارات السياسية في الشارع المصري خاصة في الفترة من 1946 – 1952 في ظل هذا المناخ انتشرت أفكار جماعة الإخوان المسلمين انتشارا ضخما حتي أصبحت خطرا علي الأمن السياسي بوجودها العنيف وأفكارها الغامضة وتكونت التنظيمات الشيوعية والصهيونية, وامتدت الإضرابات والاعتصامات ولم يستنشق جهاز البوليس نفسه من الغليان والسخط لأسباب اقتصادية فئوية, فأضرب رجاله في أكتوبر 1947 ومارس 1948 وحاصرتهم قوات الجيش ليهدم هذا الإضراب القلعة الحصينة التي كان يتحصن بها النظام ولم يبق من الهيكل كله إلا جهاز الأمن السياسي الذي بقي علي ولائه لحماية النظام السياسي المنهار.
لا جدال أن هذه أخطر مراحل العنف السياسي في مصر فقد أنشئ مكتب جديد في بوليس القاهرة ضمن تخصصات (القسم المخصوصي) في 1947 أطلق عليه اسم مكتب الشئون العربية كان من بين أهدافه الحفاظ علي أرواح الزعماء واللاجئين العرب- ثم انبثق عنه فرع لمراقبة النشاط الصهيوني وصلته باليهود المقيمين في مصر وقيام مكتب مكافحة الشيوعية تابع للقسم, كما أنشئت فروع للقسم المخصوصي في المحافظات.
وهنا يؤكد مؤرخنا الجليل: كانت هذه المرحلة هي تاريخ الميلاد الحقيقي لجهاز الأمن السياسي البوليس بكل ما تحمله هذه الكلمات من معني… هنا فقط في النصف الثاني من الأربعينيات تبدأ العلاقة الخاصة بين نظام الحكم وجهاز الأمن السياسي… جهاز أمن الدولة.
وبدأت الأسماء اللامعة في سماد الأمن السياسي القائمقام محمد إبراهيم أمام- الصاغ محمد توفيق السعيد- الصاغ محمد الجزار- البكباشي سعد الدين السنباطي- اللواء أحمد طلعت… وأن تألقهم راجع إلي أدوارهم في الإيقاع بالمتهمين في القضايا السياسية, واستخدام أساليب التعذيب… وأطلقت يد البوليس السياسي علي أبناء البلد وكانت التهم الملفقة جاهزة, فلم يكن يعمل وفقا لقانون معين أو لائحة محددة… حتي انتهي الأمر إلي انحراف جهاز الأمن عن مهمته بارتكاب جرائم القتل السياسي عندما قتل حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين علي يد مجموعة من رجال البوليس 1949, وانساق في بعد ذلك إلي مزيد من الجرائم ترمز وثائق محاكمات رجال عهد ما قبل ثورة يوليو 52 بحوادث التعذيب التي ميزت عهد (إبراهيم عبد الهادي) التي جرت علي يد جاز الأمن السياسي, ولقد ترتب علي ذلك أن أقترن في آذان الشعب المصري لفترات طويلة مصطلحي (البوليس السياسي) و (التعذيب), ولكن مع نهاية 1949 شهدت تطهيرا جزئيا في جهاز الأمن السياسي بهدف امتصاص بعض السخط التي أحدثته أعمال الجهاز خلال الفترة السابقة رغم هذا فإن السلوك غير سوي لجهاز الأمن السياسي, لم يقلل علي الإطلاق من الأهمية التي حازها هذا الجهاز داخل البوليس, وإعطاء الأمن السياس أفضليته علي الأمن الجنائي, وهي سياسة بوليسة ضارة بكل المقاييس. واحترقت القاهرة وأصيب جهاز البوليس بالشلل نتيجة لدور جهاز الأمن السياس.
ومع ثورة 23 يوليو صدر قرار رئيس الوزراء بإلغاء القسم المخصوص وكافة أجهزة البوليس وفروعه…وفي أغسطس 1952 كلف زكريا محيي الدين بتشكيل الإدارة العامة للمباحث العامة. ومما لاشك فيه أن أخصائي الإرهاب الأسود والتعذيب والتلفيق الذين شوهوا ثورة 23 يوليو واستخدمتهم السلطة كانوا من بقايا البوليس السياسي…ومن هذه المدرسة التي ديرت اغتيال عدد كبير من الأبرياء واستخدمالسجن الحربي لأول مرة في مصر للمدنيين وأممت الحياة السياسية.
وكان من أبرز أساتذة التعذيب في تلك الفترة صلاح نصر وشمس بدران وحمزة البسيوني مما أدي إلي أن الهتافات التي رددتها الجماهير في مظاهرات 1968 كانتتسقط دولة المخابرات…تسقط دولة المباحث.
وبعد ثورة التصحيح 1971 تفسير الاسم من المباحث العامة إلي مباحث العامة إلي مباحث أمن الدولة ثم جهاز أمن الدولة.
ومع قيام الحرب بين مصر وإسرائيل بدأت تظهر أهمية الجهاز عندما بدأ يعمل في ضبط الجواسيس بالتعاون مع أجهزة المخابرات ولاحظ أن المهام أصبحت تتشعب وتتفرع وتتزايد مع سلطة الدولة البوليسية حتي أصبح تعيين الموظفين والسفراء والترشيح للمناصب المهمة وما إلي ذلك من اختصاص الجهاز.
ويختتم المؤرخ الكبير د. عبد الوهاب حواره معنا هكذا نجد أن آليات أجهزة الأمن لم تتغير من الماضي إلي الحاضر..تغير مسماه فقط. وكم من نظام أسلم أموره لأجهزة الأمن السياسي فانتهي أمره إلي كارثة …وليت.