من المؤسف أن الحرب لدي العرب , ومجمل قضاياهم المصيرية , تدار عبر وسائل الإعلام والثرثرة ##النضالية والقتالية## . مئات المقالات التي تصفحتها في المواقع العربية, لم أجد في الأكثرية المطلقة منها محاولة لفهم خلفية الحرب التدميرية الرهيبة ضد الشعب الفلسطيني في غزة .. وضرورة مثل هذه الحرب .. ومصداقية تبريراتها من جانب حماس .. وهل كان الاندفاع للمواجهة مع إسرائيل عملا محسوبا بمسئولية , أم تورطا أخرق ساهمت فيه العديد من القوي , التي لن تتعرض سلامتها للخطر .. ولماذا رفضت حماس الرسالة التي حملها الموفد الفلسطيني لقيادة حماس في دمشق وللقيادة السورية , قبل ثلاثة أيام من بدء القتال بأن تكف عن إطلاق الصواريخ حتي لا تظل ذريعة للعدوان الإسرائيلي الجاهز للانقضاض , كما كشف عن ذلك أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية, ياسر عبد ربه ؟!
لايكفي أن يكون أحد أطراف الحرب من ربعنا وصاحب مطالب صادقة وصحيحة بجذورها , لنصبح دعاة ومصفقين ومتحمسين وثرثارين قتاليين . هل سأل أصحاب المقالات النارية الحماسية الداعمة , عن الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني نتيجة زجه في حرب لا يملك من أسباب القوة فيها الا الشجاعة ؟ هل كان رأي واصفي المقالات ##القتالية ## يتخذون نفس الموقف لو كان خطر القصف فوق رؤوس أطفالهم ونسائهم ورؤوسهم ؟ هل صار الدم الفلسطيني مادة بديلة للحبر للسادة الكتاب الأفاضل , يبرزون بمداده شطاراتهم الإنشائية ؟ هل فكروا قبل تسويد الكلمة الأولي في مقالاتهم العنترية عن الظروف التي تحيط بالواقع الفلسطيني واستحالة ان يكون قرار الحرب إلا قرارا انتحاريا للشعب الفلسطيني اتخذه جانب لايقيم للحياة الإنسانية لمواطنيه وزنا؟ هل سأل أحدهم أما فلسطينية أو أطفالها اذا كانوا يريدون مثل هذه الحرب في ظروف لا يملك فيها شعبنا الفلسطيني من أسباب القوة ما يوفر له حماية أمن مواطنيه …وميزان من الرد الموازي المؤثر , الذي يؤخذ بحساب الطرف الآخر؟ .. هل قرروا الحرب وهم علي ثقة بالقدرة علي تحريك دول العالم , والدول العربية , لوقف التدمير الشامل وإيجاد حل للحصار القاتل؟!
هل الموت الفلسطيني هو انتصار نتفاخر به ونجعله نصرا إلهيا ؟!
هل سنصاب بالطرش حين يحتفل قادة حماس بانتصارهم فلا نسمع بكاء الأطفال والنساء , والأرامل والثواكل واليتامي والمشوهين لمدي العمر ؟!
أولئك لا حساب لهم في قرار الحرب الحماسي ؟!
هل قام الدافعون لهذه المواجهة الدموية بحساب الثمن الإنساني لها؟ وهل للإنسان قيمة في حسابات المتصارعين علي السلطة ؟
إن مطالب حماس تؤكد علي إنهاء الحصار . مطلب عادل ومشروع ومن هنا هل آلاف القتلي والجرحي كان ثمنا معقولا في حسابات مغامرين لا قيمة عندهم لحياة أبناء شعبهم ؟
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا , هل حقا لم يكن إلا الخيار العسكري من طريق لفتح المعابر أو معبر رفح علي الأقل حتي بالتضحية بمئات الأطفال والنساء والمقاتلين, وهدم آلاف المباني والبني التحتية الأساسية وغير الأساسية ؟!
ألم تر حماس طريقا آخر . طريقا يضمن مجموعة من الثوابت التي لا بد لكل سلطة مسئولة ان تضعها كخطوط حمراء أمام عينيها, وفي حساباتها السياسية..؟!
ستذهب السكرة والنشوة القتالية التي تمسك اليوم بزمام وعقول أصحاب القلم العرب المتحمسين ما دامت أيديهم وأيدي أبناء عائلاتهم بعيدة عن النار , دون أن يفكر أحدهم بأم فلسطينية تبكي أطفالها , أو أب ثكل كل أفراد عائلته , أو أطفال تيتموا وتشوهوا لكل العمر …؟!
وسيبرز السؤال الكبير , ليس أمام أبناء الشعب الفلسطيني الذي يدفع أثمانا لم تعد الكلمات قادرة علي إيجاد الاصطلاح الذي يعبر عن عمق الألم والدمار والدم … بل أمام كل الشعوب العربية وغير العربية : إلا توجد طريقة أخري , حتي في ظل الأوضاع المأساوية للشعب الفلسطيني , تجنبه هذا الحرق البشري والتدميري ؟
التناقض في الموقف الفلسطيني , ليس مجرد اجتهادات .. بل تناقض بين العقلانية السياسية , والمسؤولية السياسية عن مصير شعب وأرواح أبنائه , وبين نهج لا يفكر إلا بارتباطاته غير الفلسطينية , واستمرار امتيازاته السلطوية , وغياب أي حساب أو تفكير عن مصير جماهير تريد الحياة وليس الموت , تريد الرقي والتطور وليس دمارا يعيدها عشرات السنين الي الوراء.. جفت دموع هذا الشعب , فهل تقود حماس نهجا لتجفيف دمائه أيضا ؟ نهجا لإعادته نصف قرن الي الوراء علي الأقل ؟
هل حقا لم يكن من بديل الا المغامرة العسكرية بتصميم واضح ؟ألم تكن أمام سلطة حماس طريقة أخري , حتي بثمن التنازل عن هذا العشق المريب للسلطة في غزة , عبر اعادة القيمة الاسمية علي الأقل للشرعية الفلسطينية , ورأب الصدع الرهيب في الموقف الفلسطيني , الذي يدمر الموقف الفلسطيني ويفقده الدعم الدولي والعربي, والقدرة علي مواجهة التحديات في المفاوضات للتخلص من الاحتلال الإسرائيلي وبدء التقدم في بناء الدولة – الحلم ..؟من يخدم أذن تدمير المشروع الوطني الفلسطيني؟
يخدم إسرائيل أولا في سياستها التماطلية والتعنتية . ولكنه لا يقدم أي خدمة للموقف الفلسطيني .. أو لموقف قوي لا تري بارتباطها الوطني الفلسطيني الوزن الأساسي لسياستها.
لا أتحدث عن سياسات إسرائيل التي ندينها وتدينها قوي دولية واسعة , غير أن مراكز القرار والقوة لا تضمن للضعفاء مظلة للحماية والحصول علي الحقوق , وهذا لم ينشأ من أمس , بل هو واقع سياسي مستهجن . ولكنه المقرر في السياسة الدولية. . وتجاهله جنون لا يقدم عليه إلا هواة مغامرون !!
الذي كان يتوهم أن الآلة العسكرية الإسرائيلية باتت مترددة وضعيفة يدفع اليوم ثمنا مخيفا . الذي توهم أن حلفاءه في المنطقة لن يتركوه وحيدا يذبح من الوريد للوريد , يواجه اليوم أبشع حالة دمار وحرق لمواطنين المفروض أنه مسئول عن أمنهم واستمرار حياتهم.
ردود إسرائيل لم تكن ضمن المجهول ,ولم تفاجئ إلا الذين خططوا للمغامرة , نحن نعرف أساليبها قبل النكبة وأثناء النكبة واستمرارا لتاريخها الدموي بعد النكبة , ضد الشعب الفلسطيني داخل وخارج إسرائيل . والمهم أنها ضامنة لكل أسباب الدعم والقوة الداعمة لسياساتها علي الساحة الدولية.. في حين أن موقف الدول العربية المفترض أنها شريك في المواجهة والدعم , يكاد يكون مهزلة في تاريخ الشعوب , وفي الفكر السياسي كله .
نحن ضامنون لكل أسباب الوهن والضعف والابتذال والشعارات التي نرددها ترديد الببغاوات , ولا نملك حتي ظهرا عربيا يقينا من الدمار والحرق والقتل… فهل كانت حسابات حماس واقعية , هل كانت لها فرصة 5% في الحسابات للقوة والإمكانيات والتفاعلات , التي قد يكون نشأ وهم قاتل حول جاهزيتها لمغامرة قاتلة من هذا النوع ؟
نكرر صرخة جمال عبد الناصر ## ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة ## . عبد الناصر لم يطرح شعارا , طرح موقفا وبني عليه . ونحن نردده شعارا بلا مضمون , ترديدا ببغاويا.غابت الإرادة العربية .والمكانة الدولية للعالم العربي . وها نحن بعد سنوات قليلة من غيابه نحيل مشروعه القومي إلي تفكك طائفي ,الي وهن عربي , إلي فقدان المكانة الدولية , إلي التحول من مقررين الي متسولين .. ,وإلي وهن في التطوير والتقدم الاقتصادي والحضاري, وأقول بدون تردد إني لا أعرف فترة في تاريخ العرب كانوا بمثل هذا التفكك والهزال !!
في مثل هذا الوضع هناك خيارات لايسمح لمسئول التورط فيها , بخيارسياسي مبتذل , وبرعونة وتفكير عقيم وحسابات لا تمت للواقع الفلسطيني البالغ التعقيد , عربيا ودوليا .
انتفاضة الحجارة كانت إبداعا شعبيا جبارا علي كل المستويات . كانت الخيار السليم لعبقرية الشعب الفلسطيني السياسية , ولم تكن قرارا من فوق .. قيادات هذه الانتفاضة هم أبطال حقا . تلك الانتفاضة أربكت إسرائيل سياسيا وعسكريا , وفضحت بطشها ,وأوصلت القضية الفلسطينية الي رأس سلم الاهتمام الدولي , وأوصل إسرائيل الرسمية للبدء بتفكير مختلف حول المشكلة الفلسطينية . فبأي حق تجيء فئة متمسكة بسلطة انقلابية , وبعقلية تبني حساباتها علي القوة , لتنسف كل إنجازات الشعب الفلسطيني وتعرضه لعنف معروف سلفا .. وكل حساب عسكري بسيط , يقف صاحبه علي أرض الواقع , لا يمكن إلا أن يفكر ألف مرة قبل الإصرار علي مواجهة خاسرة سلفا , وتدميرية بحدود من الصعب للعقل أن يستوعبها… والمضحك أن قرار الحرب كان شكليا علي الأقل , قرارا فلسطينيا .
إن قرار خوض الحرب هو قرار مصيري وليس مناورة سياسية عابرة , أو منهجا سياسيا لتحقيق مطلب ما لفئات وقوي لها حساباتها المنطقية والشخصية والفئوية .
إسرائيل خططت للحرب…وهذا حدث تقريبا في كل حروبها ضد العالم العربي , لهذا هي تنتصر دوما .. وحتي في حرب لبنان الثانية لم تهزم كما يتوهم البعض .. دفعت ثمنا رهيبا ومقابلها دفع الشعب اللبناني أثمانا أكثر ألما من أجل أن يتفاخر البعض بنصر إلهي . هل حساب الخسارة الإسرائيلية الموهومة , هو حساب سليم .. أما حساب الخسارة الإنسانية اللبنانية فهو حساب بلا قيمة؟
إن من توهم أن الساحة أضحت ميسرة لثمن عسكري إسرائيلي مشابه في غزة , هو قليل عقل ولا يستحق البقاء في مسئولياته حتي لو كان منتخبا شرعيا.
أولا الثمن العسكري لم يدفعه إلا الفلسطينيون . والثمن الإنساني أيضا لم يدفعه إلا الفلسطينيون نساء وأطفالا ومواطنين عزل .. وهو كارثة أخري لهذا الشعب المصاب بقيادات لم تنجز لشعبها غير الموت.. ولا تفكر إلا بسياسات الشهادة … لا سادتي , اذهبوا أنتم للشهادة واتركونا نعيش حياتنا ونناضل لننجز مشروعنا القومي بالحفاظ عل كل طفل فلسطيني وكل أم فلسطينية وكل إنسان فلسطيني .
كل حججكم لا تغطية لها. التمرد علي السلطة الفلسطينية كان تخريبا مبرمجا للمشروع الوطني الفلسطيني وقد تكون أيدي وخطط ومصالح غير فلسطينية شريكة فيها.. الإغلاق كان يمكن التخلص منه بثمن بسيط وغير مؤثر ولا يقود إلي آلاف الضحايا الأبرياء ,أصحاب الحق بالحياة وليس بالموت والدمار لكل مرافق حياة هذا الشعب الذي صبره يعجز أيوب نفسه.
النصر العظيم هو الانتصار علي الموت لصالح الحياة , الانتصار علي الذات وأطماعها , لمصلحة القضية التي تشغلنا جميعا في الدرجة الأولي ,إقامة دولة فلسطين المستقلة.
كل وهم بأن هذا الشعب المحصورإسرائيليا وعربيا ودوليا , والمدمر والمعطلة كل قدراته التطويرية والعلمية والاقتصادية , قادر علي اإنجاز مشروعه بقوة السلاح , هو وهم قاتل .. هو وهم لا يعيش إلا في رؤوس لا تفكر خطوتين أكثر للأمام .
لا أعرف كيف ستنتهي مأساة غزة.. لا أعرف ما هو الثمن النهائي لهذه الكارثة الجديدة .. ولكن ما أعرفه أن شعبنا لن يتنازل عن حلمه القومي . ويجب إعطاء دفة القيادة لمن يقدر علي إنجاز هذا الحلم ضمن الواقع العربي والدولي .
كاتب وناقد فلسطيني
[email protected]