تحتفل الكلية الإكليريكية في التاسع والعشرين من نوفمبر كل عام بعيدها الذي يعود بنا إلي ذكريات سجلها لنا التاريخ معترفا بما لها من عمق وتأثير مسجل بحروف من ذهب علي جدران التاريخ المسيحي في كل أنحاء العالم الذي شرب وترعرع ونمي علي شاطيء نهر المعرفة والثقافة المصرية بمدينة الإسكندرية العريقة مما يجعلنا أن ننظر إلي هذا الصرح الكبير من مناظير ثلاث وهي:
الجذور..والحضور..والمواجهة
+ الإكليريكية والجذور: لايختلف مثقفي العالم علي الإجماع أن مدرسة الإسكندرية كانت منارة ثقافية تضيء لكل المسكونة سواء بمكتبتها أو بمعلميها أو بطلابها فجميعهم كان التميز نصيبهم والعالمية ميراثهم وشهرتهم فلاشك أن مدرسة الإسكندرية الوثنية كانت من الجذور المهمة لقواعد المعرفة والثقافة لكل العالم وأكيد كان هناك مخزونا روحيا مستعد لأستقبال الدين الجديد والتعليم الجديد الذي جاء به القديس مرقس الرسول كارزا بين مواطني الإسكندرية أولئك الذين كانوا يتمتعون بقدر كبير من الثقافة اليونانية بجوار فلسفتها الشهيرة ولكنهم كانوا تحت طغيان الرومان واضطهادهم لذلك وجد مرقس الرسول أرض خصبة يزرع ويؤسس عليها مدرسة مسيحية تخدم المجتمع بالتعليم والثقافة التي تخلق إنسانا سويا يعرف الله ويحبه من خلال الطب والهندسة والموسيقي والعلوم الدينية والفلسفة واشتهرت مدرسة الإسكندرية بالعلماء الأجلاء فضربت في بطن التاريخ بجذور علمية لها شهرتها أمثال العلامة القديس يسطس الذي صار بطريرك للكرسي المرقسي وبعده أومانيوس ومركيانوس وغيرهم من الآباء البطاركة الذين حملوا رسالة التنوير في كل ربوع مصر والعالم وغيرهم من أعمدة في الإيمان والعقيدة والفلسفة والتاريخ أمثال الفيلسوف أثيناغوراس والقديس بنتينوس الذي أستلم قيادة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في عام 181م واستمر حتي عام 190م وذهب بعد ذلك ليبشر في بلاد العرب والهند والقديس أكليمنضس الذي أثري المكتبة بمؤلفاته من أشهرها المتفرقاتويهمنا في هذه المناسبة أن نشهد لأحد الأعمدة التي جذورها ثبتت لنا المكانة الأولي أمام العالم في الحفاظ علي العقيدة والإيمان المستقيم وهو القديس العظيم أثناسيوس الرسولي الذي حضر مجمع نيقية مدافعا عن الإيمان وترك لنا مجموعة من الكتب التراثية التي لاغني عنها في المكتبة المسيحية وهيحياة أنطونيوس-تجسد الكلمة-الرسالة ضد الوثنيين-رسائل عن الروح القدسولنا أيضا مثال آخر وهو القديس ديديموس الضرير الذي حفر في عمق التاريخ بجذور من فولاذ فأضافت إلي الإنسانية الكثير ومع إنه كان ضرير البصر ولكن كانت بصيرته أقوي فأنار القرن الرابع بعلمه وفلسفته اللاهوتية ودراسة الكتاب المقدس هذا الذي قال له القديس أنطونيوسلاتحزن لفقدك بصرا جسديا فينبغي أن تفرح أن لك عينين روحانيتين تستطيع أن تبصر بهما نور اللاهوتوهكذا انتشرت هذه الجذور القوية حتي أوائل القرن الخامس الميلادي ثم انتقلت الرسالة بين يدي أباء برية شهيت لتكون لها ثمار بين الرهبان وكأن التاريخ يتنبأ أن ممكن أن يكون بين الرهبان من يقود الكنيسة بعلم ومعرفة واصالة ثقافية لها مكانتها بين العالم.
++ الإكليريكية والحضور:-لقد كان لمدرسة الإسكندرية حضورا ثقافيا أبهر العقول وحطم متاريس الوثنية منذ أول وهلة أتي فيها القديس مرقس إلي أرض مصر ولاسيما في مدينة الإسكندرية عاصمة العالم الثقافية في ذاك الزمان فكرز وبشر وعلم وأسس مدرسة الإسكندرية فخرجت شعلة الكرازة والإيمان إلي كل ربوع مصر وعرف العالم كله مصر الإسكندرية وكاروزها ومدرستها ومن هنا نستطيع أن نقول إنه حضور النور الذي بدد ظلام العقول الوثنية وأضاءها بنور المسيح والثقافة المسيحية وأثبتت بحضورها الثقافي الروحي أن المسيحية ليست ديانة وقوانين وإنما حياة وعمل فكانت ثمرة مدرسة الإسكندرية موجودة في المجامع المسكونية الشهيرة تدافع عن الإيمان ممثلة في القديس أثناسيوس وغيره من الآباء وحضورها أيضا في الكرازة والتبشير ممثل في القديس نتنيوس الذي وصل إلي بلاد الهند وأرويجانوس الذي ذهب إلي أورشليم أما حضورها الثقافي فها هي أي ظروف لم تمت حتي وإن ظن العالم إنها انتهت ولكنها كانت حية في عروق أباء الكنيسة النساك والعلمانيين وهذا ما رأيناها في عهد البابا كيرلس الخامس الذي أعاد حضورها العلني وأخرجها من أحضان البرية إلي العالمية التي كان يترجاها البابا كيرلس الرابع مؤسس النهضة الإصلاحية الحديثة وبالتحديد في يوم29 من نوفمبر عام 1893م أعاد افتتاحها وأسند إشرافها إلي الأستاذ يوسف منقريوس وكان مقرها في حي الفجالة ثم إنتقلت إلي الدار البطريركية ثم تم شراء منزل خاص بها في مهمشة بالشرابية عام 1902م وانتقلت نهائيا إلي مهمشة في عام 1912م وكان من بين طلبتها الأرشيدياكون حبيب جرجس الذي تعين ناظرا لها في عام 1918م ووسع في حضورها وأصبح بها أقسام مختلفة متوسط وعالي وجاء بعده القمص إبراهيم عطية مديرا ثم انتقلت إلي مقرها الحالي بدير القديس الأنبا رويس بالعباسية ثم بعد ذلك انتشرت الكلية الإكليريكية في كل مكان ولاسيما في عهد قداسة البابا شنودة الثالث الذي سيم في 30 سبتمبر1962 أسقفا للتعليم أي الكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية الذي كان في مقدمة اهتمامته بعد أن أختير للبطريركية أن ينشر الإكليريكات في كل ربوع مصر كان أولها فرع الإسكندرية في 23 فبراير عام 1972م ثم دير المحرق في سبتمبر 1973م وبعدها طنطا ثم البلينا والمنوفية وأمريكا وإستراليا وفي كثير من بلاد العالم وبهذا الحضور المسكوني للكلية الإكليريكية عرف العالم مصر وكنيستها وأبطال إيمانها واستقامة عقيدتها وفكرها نعم إنه حضور الله فيها.هذا ولا يغيب علينا أن نشكر الكلية الإكليريكية بدير المحرق والمسئولين عنها إذ يعتبروا يوم إعادة أفتتاح الكلية الإكليريكية في عهد قداسة البابا كيرلس الخامس عيدا سنويا يقام فيه القداسات وتلقي فيه المحاضرات ويتجمع فيه كل خريجي الإكليريكية وكأنهم يقولوا أمام الجميع إننا لا ننسي أمنا الولود والحضن الدافيء الذي يجمعنا والذي يعتني بنا ويقول بصرخة عالية واكليريكيتاه.
+++ ومواجهة:- أمام تلك الجذور التي غاصت بقوتها في أعماق التاريخ وأمام هذا الحضور المنشر والمضيء للأكليريكية في كل العصور الماضية…وفي هذه الأيام الحاضرة نري أنفسنا أمام مواجهة لمتطلبات علمية معاصرة وأمام ثقافة عولمية باهرة ممكن يتوه معها العقل البشري تحتاج إلي انتشار أكبر للأكليريكيات متخصصة في كل الأيبارشيات كما توجد مواجهة لخريج الإكليريكية مع الحياة المعاصرة ومتطلباتها العلمية والمعيشية والروحية والأسرية كما لا ننسي ما يتعرض إليه الخريج بعد تخرجه وإيجاد مجال مناسب ليخدم به الكنيسة الأم ليعد راعية صالحة للراعي الصالح ومواطن يعرف ماهي المواطنة من حقوق وواجبات كما لا ننسي مواجهة الكنيسة عامة لعالم يحتاج إلي ثقافة من نوع خاص تتميز بالمعرفة والثقافة الحديثة والمعاصرة حقا إنها مواجهة مع واقع لايمكن الهروب منه لذا يجب أن يدخل إلي مناهج الكليات اللاهوتية كل ماهو حديث ويجاري متطلبات العصر من تكنولوجيا متحضرة ويتاح لطالب اللاهوت فرصة للمنح والدراسات العليا سواء في داخل البلاد أو خارجها وتتوافر بين يديه المكتبة الخاصة له وتسانده الكنيسة في ذلك أما أمام مواجهات الخريج فشكرا لله الذي سمح بتأسيس رابطة خريجي الكلية الإكليريكية التي أسسها العالم الجليل الدكتور وهيب جورجي تحت رعاية صاحب القداسة والغبطة البابا شنودة الثالث أب جميع الإكليريكين ويرأس مجلس إدارتها نيافة الأنبا إبرآم أسقف الفيوم ورئيس دير الملاك وخريج الكلية الإكليريكية ونائبة نيافة الأنبا أغاثون أسقف مغاغة والعدوة وأمينها الدكتور رشدي واصف ومعهم مجموعة من خريجي الكلية الإكليريكية وتعمل الرابطة علي مد الخريج بمعلومات بحثية في علوم الكنيسة عن طريق مجلة الكرمة التي هي إمتداد لكرمة الأرشيدياكون حبيب جرجس وتوفر فرص خدمة للخريج في مجالات مختلفة علي مستوي الكرازة كما تقدم مساعدات مادية لأسرة الخريج في مرضه وبعد نياحته عملا بمواجهة الظروف الحاضرة التي تواجه الخريج وتحت شعار الإكليريكية أمنا جميعا كما تقوم الرابطة بالرحلات الخارجية سنويا وعمل مؤتمرات لخريجي الإكليريكية كل عام تقدم فيها المحاضرات العلمية البحثية التي يحتاج إليها كل خريج.
وختاما أقول هذه هي الإكليريكية في جذورها وهذا هو حضورها وهذه هي المواجهة نطلب من الله يحفظها لنا بصلوات راعي الراعاه قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية والرئيس الأعلي للكليات اللاهوتية والمعاهد الدينية وشركائه في الخدمة الرسولية الآباء المطارنة والأساقفة أدام الله لنا حياتهم جميعا.