آن الآوان أن تجري انتخابات تحاط بكل سياج من الحرية والحياد..انتخابات ينزل الجميع علي نتائجها لعل وعسي أن تتمتع الحياة النيابية بشيء من الاستقرار..هذا ما طالبت به صحف ومجلات بلاط صاحبة الجلالة في انتخابات القرن الماضي والتي كانت شاهدا ورقيبا علي ما تعج به الساحة السياسية من معارك وأحداث, كما كانت منبرا للآراء الحرة الداعية لحرية الانتخابات ونزاهتها, تلك الحرية التي لم تتحقق حتي يومنا هذا!!
في جولة في انتخابات القرن الماضي نجد أن انتخابات سنة 1926 لانستطيع أن نقول إنه وجدت معركة انتخابية لأن الأحزاب في ذلك الوقت كانت مؤقتة وكانت الأغلبية للوفديين وكذلك انتخابات سنة 1929 التي أجرتها وزارة عدلي يكن باشا,أسفرت عن أغلبية للقطب الأوحد في ذلك الوقت وهو الوفد.
بينما جاءت انتخابات 1930 أيام صدقي باشا خالية من الوفديين والدستوريين فلم يشتركوا وأسفرت النتيجة عن أغلبية للشعبيين والاتحاديين.
أما انتخابات 1936 أشرفت عليها وزارة علي ماهر باشا وخرج منها الوفديون بأغلبية كبيرة ولم يحصل الوفديون خلال انتخابات 1938 في وزارة محمود محمود باشا إلا علي اثني عشر مقعدا فقط ويرجع ذلك لاستمرار الأحكام العرفية التي فرضت في عام 1936 وخضوع أفراد الشعب لمقتضياتها.
وفي حوار لرئيس الوزراء حسين سري باشا مع رئيس تحرير مجلة المصور في عددها الصادر في 9 ديسمبر 1949 قال رئيس التحرير الانتخابات! إنها أضخم معركة وأخطر معركة؟!رد حسين سري باشا قائلاأبدا…تفاءلوا أيها المصريون ولا تتشاءموا لا ضخامة ولا خطورة..كل شيء يسير سيرا حسنا, وأملي في حكمة المصريين من مرشحين وناخبين وأحزاب تدعوني للاطمئنان بل الاغتباط وستمر الانتخابات في هدوء وإذا حدثت اضطرابات أو أي عبث فأني لها.. سأتخذ كل إجراء صارم في سبيل المصلحة العامة بدون أي تردد. وسجلت صحف ومجلات أربعينيات القرن الماضي الكثير من الحوادث في الانتخابات من اعتداءات وتخريب وحرق ممتلكات, كان لهذه المعارك الحامية دلالتها لدي المفكرين والمثقفين حيث علق عليها الكاتب الكبير فكري بك أباظة في إحدي مقالاته تحت عنوان الأحزاب والانتخابات التي نشرت بمجلة المصور سنة1949 ,حيث قال: ترتب علي ذلك من النتائج ما أصاب الأحزاب السياسية المصرية كلها إصابة بليغة في الصميم وفي الجوهر.. اختلط الحابل بالنابل وتشابهت مباديء الأحزاب وخططها حتي أوشكت أن تكون قوانينها الأساسية نسخة واحدة فلما نشب الخلاف بينها واستقر تساؤل العقلاء :ما سبب الخلاف والمباديء واحدة والخطط واحدة؟..ومن هنا نشأت تسمية تلك الأحزاب بالعصابات واختصر التمييز بينها علي اسم الحزب وزعيم العصابة.. إلا أن حكيم الفكر العربي عباس محمود العقاد كتب في إحدي مقالاتهإنها معركة نفوذ..لا معركة رأي وأحسن ما فيها عن دلالات أن النيابة في الأزمة قد أصبحت معركة بالنفوذ..لاتحصل هذه المعارك الدامية في البلاد البرلمانية إلا إذا ظهر فيها فريق أو أكثر من فريق يدينون بالعمل المباشر ولايدينون بالديموقراطية البرلمانية.. والمراد بالعمل المباشر هو العمل المعتمد علي القوة المباشرة التي تطلب الحكم بغير الوسائل النيابية,وهي وسائل الثورة المباشرة علي النظام القائم كيفما كان,ثم يصف الحوادث برأيه..فحينما وقعت معركة انتخابية تودي بالأرواح فهناك خلل في جانب من جوانب الحرية الديموقراطية .
ومن رأي السياسيين في تلك الفترة ما ذكره أحد كبار السعديين من أن السبب في شدة الإقبال علي الترشيح لعضوية مجلس النواب كثرة الأموال في أيدي أناس ربحوا وضاقت بها جيوبهم فأرادوا أن يلقوا بها في بالوعة الانتخابات.
ونعود مرة أخري لكاتبنا الكبير فكري بك أباظة ليلخص لنا عبر تجاربه البرلمانية قصة الحياة البرلمانية ودهاليز وكواليس وضحايا تجاربها فقال:أدعو لبلادي بأن يحميها الله من أوبئة وآفات الكوليرا والفيضان والحرب ودودة القطن والانتخابات..آفة الانتخابات تعم كل مديرية وكل مكان من الإسكندرية وبورسعيد حتي قنا وأسوان!!وآفة يا فندم نظامية بمواعيد مظبوطة دستورية تجيء لك كل خمس سنين بانتظام إن لم تيجي كل سنتين وثلاثة فجأة من غير انتظام,فالضحية الأولي هو المرشح ياما قلت لمحامين وأطباء وموظفين وتجار..ثلاثة أربع المرشحين يسقطوا والربع بينجح..الساقط خسران سمعته وأعصابه وفلوسه والناجح هيكع زيهم في مشاوير الرجوات والشفاعات والوساطات,والضحية المساكين 10% منهم بيفهموا إيه المطلوب و90% أبرياء يجرجروهم زي الدبايح,تارة بالإكراه وتارة بالتهديد والوعيد وتارة بالوعود والنصب المعهود ويدفعوا الثمن من رزقهم ومصالحهم وأمنهم وسلامتهم وبينهم ضحايا للانتقامات والعقوبات والمضايقات والأخلاق هي الضحية الرابعة..المعركة الانتخابية أقذر مدرسة أخلاقية علي الإطلاق,أما الضحية الرابعة فهي العائلات..كل عيلة كبيرة في الأرياف فيها مرشح وفدي وسعدي ودستوري..مين اللي يضحك علي التاني؟العائلات ولا الأحزاب..العيلة ذات العصبية ..ولكن في النهاية العائلات هي الضحية..فالأحزاب وحوش ترشح الأخ ضد أخوه وابن العم ضد ابن عمه,وبتحطم العائلات وتشعل الثورات والحزازات وتسبب بينها القضايا والمنازعات في الانتخابات, الأحزاب يعني الخراب والمسألة مش مسألة تضحية فلوس وإنما تضحية نفوس آن الأوان أن تجري انتخابات تحاط بكل سياج من الحرية والحياد.
كما أصبحت الانتخابات من أهم مواسم أكل العيش بالنسبة للكثيرين,مثل الخطاطين وبائعي القماش وشعراء الرصيف..لايجب أن تمر مرور الكرام دون استفادة لجميع الأطراف,فلايمكن أن تمر بشارع من شوارع العاصمة دون أن يلفت انتباهك اللافتات القماشية الكبيرة.وقد تباري المرشحون في اختيار الأماكن البارزة.
كما يجمع منظمو الدعاية الانتخابية علي منح مرشحيهم لقبالبكويةغير حافلين بقانون الألقاب..ويلاحظ المتفقد لوسائل الدعاية الانتخابية أنه ما من مرشح إلا وأقام نفسه محاميا عن الطبقات العاملة والفقيرة ونصيرا للفلاح..وتكاد تكون بعض اللوحات التي وضعت للدعاية الانتخابية أن تكون سجلا جامعا لتاريخ أصحابها,وبجميع ما يتمتعون به من مواهب ومؤهلات وما قاموا به من أعمال.
وأثبتت المعركة الانتخابية أنالكاريكاتيرأصبح من أهم وسائل الدعاية لما له من قدرة علي اجتذاب الأنظار ولم يكتف المرشحون باللافتات القماشية بل زينوا جدران دوائرهم بالإعلانات المطبوعة حتي اختفت معالم جميع الحوائط والجدران في الشوارع التي تحولت لمعرض مفتوح لجميع أنواع الفنون من رسم وكاريكاتير وشعر.ويتعمد معظم المتنافسين سرد تاريخ حياتهم المشرف في الإعلان معددا خدماته مطلقا علي نفسه أضخم الأوصاف والألقاب فهوالعالم الجليلأو المربي الفاضلأوالمشرع الكبيرأوالمصلح الاجتماعي ولعل أطرف الألقابطبيب الفقراءأوطبيب الشعبوعدو الظلموأكثرها شيوعا نصير العمالوصديق الفلاح.
إلا أن من أهم الظواهر التي تدل علي قوة الوعي القومي في أربعينيات القرن الماضي مالوحظ من أن المرشحين قد أجمعوا علي برنامج واحد رغم اختلاف أحزابهم ,البرنامج قوامه الجلاءوحدة وادي النيلالإصلاح الاجتماعي.
ما أشبه اليوم بالبارحة,فقد لاحظنا أن العديد من المرشحين يستغل صلاته بالطرق الصوفية أوسع استغلال,فقد عمد أحدهم إلي الحصول علي شهادة من أحد مشايخ هذه الطرق بصلاحه وتقواه ثم طبع منشورا تتصدره صورة الشيخ.
وبدأت الصحف اليومية تستفيد من هذه المعركة من ناحية التمويل فكل سطر من أسطر النشر بجنيه كامل منذ انتخابات 1944,لكن يري المرشحون أنه يجب علي سبيل الفخفخة أن ينشروا بضعة أسطر يشكرون فيها أهل دوائرهم.
لنا الحق في التساؤل بعد تجارب الماضي القريب والبعيد, أليس من حقنا أن نكون معاصرين لانتخابات برلمانية نزيهة بلا دماء ولا فضائح ولا معارك ولاضحايا ولا اعتداءات علي الممتلكات وليكن الناجح حقا ثمرة إجماع شعبي عليه وليس التزوير.