في احتفالية ثقافية متميزة ذات مذاق تراثي أصيل أقامت جمعية محبي التراث القبطي مؤتمرها السنوي الثاني عشر علي مدار ثلاثة أيام, تحت عنوان التواصل التراثي المسيحي-الإسلامي في مصر تحت رعاية دعبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام برئاسة م.سامي متري, وبمشاركة أ.د.سامي صبري رئيس قسم العمارة بكلية الهندسة جامعة القاهرة, ومقرر عام المؤتمر م.رينيه يعقوب… وقامت الجمعية بتكريم الفنان الكبير عادل إمام لدوره الريادي وأعماله علي مدي نصف قرن في مجال التواصل الفكري في مصر.
تنوعت موضوعات المؤتمر فشملت العديد من مجالات التواصل التراثي مثل اللغة والفنون والعمارة والفكر والأدب والموسيقي وشارك في إلقاء المحاضرات نخبة متميزة من الأساتذة المتخصصين.
يحكي أن…
قدمت المقررة أ.د.هناء طنيوس -أستاذ ورئيس قسم علوم الموسيقي بالكونسيرفاتوار-, لمحاضرة د.جهاد داود -أستاذ علوم الموسيقي بالكونسيرفاتوار- الذي بدأ كلماته من التراث الشعبي التواصلي بعبارة: يحكي أن… فتحدث عن التفاف المصري القديم منذ الحضارة الفرعونية حول النيل وعشقه لهذا النهر العريق وللأرض والوطن…. والموسيقي والهوية. وذكر أن الباحثين توصلوا إلي أن كل الآلات التي انتشرت في العالم ترجع أصولها إلي العصر الفرعوني, وبالرغم من أنه توجد لدينا نماذج من كل الآلات في المتاحف العالمية إلا أنه لا يوجد لدينا لحن فرعوني واحد موثق ولا نوتة موسيقية متوافرة ترجع إلي تلك العصور السحيقة.
وكان الشعب الفرعوني يغني في كل مكان وليس في المعابد فقط حيث كان هذا الشكل من الغناء منتشرا سواء في المناسبات الاجتماعية أو الأحزان أو الأفراح أو حتي في لعب الأطفال. بل وكانت توجد أغان لكل دورة الحياة من الميلاد وحتي الوفاة… ولكن ليس لدينا منها لحن واحد مسجل – لكنه متوارث عبر الأجيال.
وعندما أسس الإغريق حضارة عريقة نسمع في مجال الموسيقي عن الفلاسفة الإغريق الذين جاءوا إلي مصر وعاشوا بها وتعلموا ثم نقلوا إلي بلادهم الكثير. وفي القرن الأول الميلادي جاء القديس مرقس الرسول مبشرا بالرسالة السماوية المسيحية, واستمرت النهضة لقرون عاصرت الفنون والثقافة والتي مازالت تثير جدلا…
وقد استقي المسيحيون ألحانهم الرائعة من وجدانهم المصري (الفرعوني) القديم – ممن سبقوهم زمنيا, ولارتباط هذه الألحان الوثيق بالطقس أصبحت إبداعا فنيا مصحوبا بعمق روحي, ولو لم يكن عميقا لما أثر في النفوس وصلوا به. ولهذا فإن اللحن القبطي له قيمة فنية وفكرية وروحية لا توجد إلا في الألحان القبطية فقط.
وقد تأكدت القيمة الثلاثية في اللحن القبطي, فكل الألحان فيها الثلاثيات حتي في كلماتها مثل (كيرياليسون يارب ارحم, واذكرني يارب متي جئت في ملكوتك… والكثير غيرها). ونلاحظ أن كل ما يرتبط بعادة شعبية أو تقليد يستمر فبالأولي إذا ارتبط بالطقس. وكمعتنق ديني ثابت مستقيم لا يتغير الطقس.
ويستكمل د.جهاد داود: ودخل الإسلام مصر. والسؤال: هل حدث تواصل؟! ومتي وكيف؟!… بالنسبة لمجال الموسيقي لم يحدث أي تواصل بين ليلة وضحاها فقد كانت اللغة القبطية واليونانية هي الأصلية لمصر وبعد أربعة أو خمسة قرون تدريجيا حدث التواصل ودخلت اللغة العربية في أجيال. وبدأت اللغة القبطية في الانحسار والانحصار داخل الكنائس. وقد كان هناك خليط بين اللغة القبطية والعربية (العامية)… وكان ذلك سببا في التواصل والأمر الذي يؤكده رائد الأدب الشعبي في مصر الراحل أحمد رشدي صالح عندما تحدث عن نشأة اللغة العربية.
كما انتشرت الموسيقي الشعبية بين المصريين حيث كانت تجمعهم الهوية المصرية والغناء علي ضفتي النيل. وكانت من أهم الفرق إلي وقت قريب فرقة رضا للفنون الشعبية, وللأسف اندثر الكثير من الألحان الشعبية… لكن الألحان القبطية محفوظة لأنها جزء من طقس الكنيسة. وإذا أراد الشعب يوما أن يحلم بحياة أفضل وتواصل أعمق فعليه أن يبحث في داخله عن هويته. والتي أري بوضوح أنها تتجلي في ألحاننا القبطية والأغاني الشعبية (القديمة).
التواصل في اللغة
وتناول الدكتور كمال فريد إسحق -باحث في التاريخ المصري- التواصل المسيحي-الإسلامي من اللغة المصرية إلي العربية قال: أول ما يقوله المسيحيون أو المسلمون في صلاتهم هو كلمة باسم وآخرما يقوله المسيحون في صلاتهم الربانية والمسلمون في الفاتحة هو كلمة آمين. هذا بالإضافة إلي كلمات أخري كثيرة وردت في الديانة الإسلامية, وأصلها غير عربي, مثل الفردوس التي أصلها كلمة فارسية وقد وردت في اليونانية والقبطية.
ونفس الامتداد اللغوي حدث مع اللغة العربية عموما بصرف النظر عن الأديان, حيث تأثرت اللغة وأثرت فيما يجاورها من لغات, فمثلا كلمة أب, وكلمة أم لهما أصل سرياني. وبالرغم من أن هذا الشعب قد غزته روافد كثيرة وثقافات جديدة إلا أنها لم تفقده من هويته إلا اللغة, فقد فقد لغته المصرية وتكلم باللغة العربية. وإن كانت اللغة المصرية قد بقيت علي لسان الشعب المصري وهي روح اللغة.
ومن أمثلة الامتداد اللغوي من اللغة المصرية ومرحلتها القبطية إلي اللغة العربية الدارجة التي يتكلم بها الشعب المصري حاليا: أسماء الشهور القبطية ومنها توت وبابة وهاتور… إلخ, وأسماء المدن القبطية مثل دمنهور ومعناها بلدة حورس, وأسماء أشخاص مثل باخوم ومعناها الأب (الذي يدعي) ذهب, وبانوب ومعناها أبو الذهب (أي صاحب الذهب). وجندي ومعناها عطية وبيومي ومعناها الفيومي. وبرعي التي يرجعها البعض إلي برعا من اللغة المصرية القديمة أي البيت الأعظم التي تطورت إلي فرعون وحدث تطور في بعض الكلمات مثل إيجيبتوس التي تطورت إلي قبطي.
كما تواصلت اللغتان القبطية والعربية بتكرار الكلمات في اللغتين في بعض التعبيرات مثل: اقعد همسه, جبنة حلوم, فط هرب, كت رجع. ويرجع السبب في هذا أن المتكلم كان يتحدث بلغة فيجد المستمع لا يفهمها فيكرر المتحدث الكلمة باللغة الأخري. وأهم تواصل لغوي حدث للمصريين هو ترجمة كثير من الكتب المكتوبة بالقبطية والكتب المسيحية عموما إلي اللغة العربية وأيضا استخدام المسيحيين اللغة العربية في كتبهم الدينية وصلواتهم, فتمكن كثير من المسلمين من قراءة التراث المسيحي, وأصبحت الثقافة تبادلية, ويلاحظ إتقان الكثير من الأقباط اللغة العربية, وكتابة الشعر بها.
كما يلاحظ قيام فنانين مسلمين بتشجيع الفن القبطي لغة ولحنا والاشتراك فيه: ومنهم الفنان محمد نوح الذي أخرج واشترك في تلحين الاحتفالية بالألفية الثانية لزيارة العائلة المقدسة لمصر. وهذه هي روح شعب مصر.
التواصل في الفكر والأدب
كان المقرر لهذه المحاضرة د.ماجد فهمي والتي قدمها أ.إسحق حنا (ماجستير في فلسفة الفنون) بعنوان التواصل عبر الفنون والعمارة حيث ذكر بأن السمات الأساسية للفن المصري استمرت تشكل ملامحه وفلسفته علي مر كل العصور وحتي يومنا هذا, وعندما انتقلت مصر من العصور الفرعونية إلي العصر القبطي امتد التراث عبر الأجيال مع إضافة التعديلات التي يقتضيها الدين الجديد. وكذلك عندما دخل الإسلام مصر حمل المصري تراثه معه لبناء الحضارة الإسلامية, فالمصريون هم صناع حضارتهم سواء كانوا يدينون بالمسيحية أو بالإسلام.
ويقول د.هـ أيدرس بل أستاذ علم البردي بجامعة أكسفورد في كتابه مصر من الإسكندرية حتي الفتح العربي, يقول عن حقبة دخول الإسلام (وسرعان ما تم الاستعانة بالصناع الأقباط المهرة في بناء المساجد في مصر وفي أورشليم ودمشق, وتسرب كثير من العناصر الزخرفية من الفن اليوناني والقبطي إلي الفن الإسلامي كورقة الأكانتوس وعناقيد العنب).
ومن مظاهر تأثير الفن القبطي علي الفن الإسلامي التأثير في فنون العمارة, والنسيج القباطي, والبساط والأخشاب والتجليد, والمعادن, والعاج والعظم, والفخار والقاشاني وأيضا الزجاج.
الطقس القبطي
وترأست أوفيليا رياض -أستاذ الدراسات اليونانية واللاتينية بجامعة القاهرة- الجلسة التي خصصت لمحاضرة دور المؤرخين المسلمين في وصف الطقس القبطي, والتي قدمها أ.د.يوحنا نسيم -أستاذ بالجامعة الكاثوليكية بأستراليا- حيث تحدث عن اثنين من المؤرخين البارزين, فذكر أن القلقشندي مؤلف كتاب صبح الأعشي في صناعة الإنشا قد كتب في كل شئ وإن كان بعض معلوماته غير دقيق إلا أنه استطاع تجميع الكثير من المعلومات, وترك لنا جزءا منها مؤرخا في الطقس القبطي.
أما المقريزي فكان صاحب مدرسة وقاضيا وله العديد من الكتابات ومن بينها كتب عن طقس الغطاس والذي كان يعد احتفالا شعبيا للمسلمين والمسيحيين (في 11 طوبة). كما ذكر في موضع آخر أنه كانت توقد المشاعل ويحضر الرهبان والقسوس (عند النيل) ويصلون هناك طويلا ثم يعودون إلي كنائسهم ويستكملون الصلاة. ثم تحول طقس الغطاس من طقس شعبي إلي طقس ديني, وحدث نوع من الاختلاف في طريقة الاحتفال, كما تحدث أيضا عن احتفالات عيد النيروز وشهر رمضان.