تجاوزت الأحداث الدامية التي شهدتها الحدود المصرية مع قطاع غزة المقبول الذي يمكن إدراجه تحت عنوان التجاوزات العابرة. فهي عكست في شكل أو آخر ذهنية سياسية تراهن علي خلق المتاعب للدولة المصرية علي أمل دفع المسئولين فيها إلي إعادة النظر في مواقفهم السياسية وثوابتها, وبالذات في موضوع المعابر وما يتصل بها ومعها, أي شرعية الحكومة الفلسطينية التي يرأسها السيد سلام فياض.
فقد رغبت سلطة الأمر الواقع في غزة, بهذه التجاوزات, في الضغط علي مصر من خاصرتها الفلسطينية لتحويل تلك الخاصرة وبسرعة إلي مشكلة طارئة وساخنة تحتاج إلي حل فوري تراه تلك السلطة في التسليم برؤية حماس لموضوع المعابر, أي بكلام آخر الاعتراف بحكومة إسماعيل هنية المقالة ومن ثم الإقرار بشرعية الانقلاب الحمساوي في قطاع غزة. وإلا ما معني أن تتكرر هذه الحوادث وتتكرر معها اعتذارات محمود الزهار دون أن تتوقف؟ بل ما معني أن تسمح قوي حماس العسكرية المرابطة علي معبر رفح بعبور المسلحين إلي مصر كي يمكن أن تقع هذه الحوادث بين يوم وآخر بعد أن أصبح من العبث الكلام عن تجاوزات لأن ما وقع مؤخرا كان اشتباكات بكل معني الكلمة؟
من الواضح لأي مراقب منذ تفجير الجدار الحدودي مع مصر أن قيادة حماس تراهن علي نقل المعركة الفلسطينية – الفلسطينية لكي تتحول إلي معركة فلسطينية – مصرية يمكن أن تخلق حالة سياسية جديدة تضطر معها الدولة المصرية إلي إعادة النظر في خياراتها وثوابتها السياسية. وهو ما يمكن قراءته من تصريحات الناطق الرسمي باسم حماس سامي أبوزهري الذي ألمح أكثر من مرة إلي أن حركته تملك أوراقا كثيرة يمكن أن تلعبها في الوقت المناسب, مثلما يمكن رؤيته أيضا في التصريح الغريب الذي أطلقه القيادي البارز والمتنفذ محمود الزهار مؤخرا والذي قال فيه إن فلسطينيي غزة الذين عبروا إلي مصر أنفقوا ما يعادل نصف مليار دولار أمريكي يري الزهار أنها تتجاوز كمعدل المساعدة الأمريكية لمصر.
هي إذا مراهنة حمساوية بالغة الوضوح علي نية إرباك الدولة المصرية, خصوصا وأن هناك في مصر ذاتها من يقف مستعدا لمؤازرة الاستفزاز الحمساوي وتأييده بالتظاهر والتحركات السياسية اليومية. فما جري يتجاوز بالتالي صورته الأولية بعنصريها المباشرين, أي قوات حماس وعناصرها وقوي الأمن المصرية. فهناك حركة الإخوان المسلمين المصرية التي تمسك قيادتها بزمام قيادة الإخوان المسلمين في العالم ومنهم بالطبع حركة حماس, الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان والتي ينهض الإخوان اليوم لنصرتها ظالمة أو مظلومة, بل ينهضون لحماية حكمها ووجودها باعتباره التجربة الإخوانية العربية الأولي في الوصول إلي الحكم, والتي لا يجوز السماح بسقوطها كما لا يجوز أن تطال صورتها أية بقع سوداء مهما بلغ بقادة حماس الشطط ومهما ارتكبوا من جرائم وإساءات في قطاع غزة.
من شاء رؤية الصورة علي حقيقتها يمكنه قراءة المقالات المحمومة التي يكتبها الإخوان المسلمون وبالذات الإخوان المصريون, والتي تدافع باستماتة عن أطروحات القادة الحمساويين وتتبني تصريحاتهم السياسية وتنفي أية تجاوزات تقع في قطاع غزة كما تعتبر الحديث عنها مجرد ادعاءات كاذبة ومغرضة يقوم بها العلمانيون من أعداء الإسلام السياسي خدمة للعدو الإسرائيلي والأمريكي.
هي إذن محاولة مقصودة ومبيتة للضغط علي مصر تحت شعارات لامعة تتحدث عن المقاومة ونصرة المقاومة, وتعتمد بالدرجة الأهم علي فكرة مركزية هي أخذ قطاع غزة بمواطنيه المليون ونصف المليون رهينة ودروعا بشرية.
في إجابته عن سؤال لإحدي القنوات الفضائية عما يمكن أن يحدث إذا رفضت مصر والعالم اعتبار معبر رفح معبرا فلسطينيا – مصريا فقط, قال أحد قادة حماس ببرود عندها سيعود الحصار وسوف يصمد شعبنا في مواجهته. هذه العقلية السياسية تتعامل مع ما يجري علي الحدود بل مع القضية برمتها بلغة المقامرة, أي إما كل شئ أو فلنهدم معبد غزة علي رؤوس الجميع, والجميع هنا هم المليون ونصف مليون من الفلسطينيين أولا, ثم السلطة الفلسطينية والدولة المصرية.
وهي حالة تستدعي التوقف أمامها بجدية وأخذها بحكمة والوصول إزائها إلي رؤية سياسية حازمة تقتضي معالجة مصرية وعربية حكيمة وحازمة أيضا لتجاوز الحالة السياسية الشاذة الموجودة في غزة اليوم من أجل إنهائها والعودة بالقطاع المنكوب إلي حالته الطبيعية. نقول ذلك ونحن ندرك أننا علي أبواب قمة عربية جديدة لا يجوز أن تقول في الموضوع الفلسطيني كلاما عاما, بل لا يجوز أن تكتفي بالكلام المجرد: فالحالة الفلسطينية باتت تتطلب حلولا جدية وعملية.
جريدة الحياة اللندنية