لا شك أن النظام في إيران ناور بشكل جيد وحاول كسب بعض الوقت في سبيل تفادي مزيد من العقوبات الدولية بسبب برنامجه النووي الذي يجهل العالم الأهداف الحقيقية من وراء الإصرار عليه وعلي رفض الرقابة الدولية في الوقت نفسه. يبدو أن إيران, في ضوء الاتفاق الذي وقعته مع تركيا والبرازيل, باتت تمتلك خط دفاع عن مواقفها. لكن هذا الخط لا يبدو كافيا لتفادي العقوبات الجديدة بدليل أن الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في المجلس تسير في هذا الاتجاه.
حتي الأمس القريب, كانت الصين مترددة في الذهاب بعيدا في فرض عقوبات جديدة. لكن موقف بيجينج الداعم لطهران, بدأ مع الوقت يميل شيئا فشيئا نحو مزيد من التفهم للموقفين الأمريكي والأوربي… أما روسيا, فقد أظهرت أخيرا بعض الحماسة في اتجاه مسايرة الأوربيين والأمريكيين مع ميل الي دعم عقوبات جديدة وإن ضمن حدود معينة عمليا, أوجدت إيران مبررا كي يطرأ تغيير علي الموقفين الروسي والصيني.
هل مشكلة إيران الحالية مع العالم ومع محيطها مرتبطة بالملف النووي وحده؟ يبدو أن طهران ترفض الاعتراف بأن الملف النووي يمثل جانبا من المشكلة فقط. يكفي أن المفاعل النووي الذي تبنيه إيران يقع في منطقة بوشهر القريبة من الضفة الأخري من الخليج العربي, كي يشعر كل مواطن خليجي بالقلق, خصوصا في الكويت. هناك مخاطر كبيرة لدي أهل الخليج من أي تسرب في مفاعل بوشهر أو أي عطل يؤدي إلي تلويث البيئة في المنطقة. الكويت أقرب إلي بوشهر من أي مدينة إيرانية أخري. ليست الكويت وحدها مهددة. هناك إجماع علي أن المفاعل الإيراني يشكل خطرا علي المنطقة كلها في غياب الرقابة الدولية وفي غياب الشفافية التي تسمح بالتأكد من أن المفاعل مبني استنادا إلي مواصفات معينة تأخذ في الاعتبار معايير السلامة المعتمدة دوليا.
ثمة جانب آخر من المشكلة تطرحه طريقة التعاطي الإيرانية مع الملف النووي. ليس ما يشير إلي أن هناك رغبة واضحة في تفادي إنتاج قنبلة نووية تستخدم رافعة لدعم السياسة الإيرانية في المنطقة. أقل ما يمكن قوله في هذا المجال إن السياسة الإيرانية المستندة إلي الغموض تثير قلقا كبيرا من المحيط إلي الخليج نظرا إلي اعتمادها علي إثارة الغرائز المذهبية واستغلالها في مجال تحقيق أهداف سياسية. لن تؤدي القنبلة النووية الإيرانية إلي سباق تسلح في المنطقة فحسب, بل ستثير في الوقت ذاته مخاوف لدي دول عدة تعرف تماما أن القنبلة الإيرانية لن تستخدم ضد إسرائيل وإنما لتخويف العرب وإثبات عجزهم. إنها تتمة لعملية خطف القضية الفلسطينية والمزايدة علي العرب والفلسطينيين أنفسهم عن طريق رفع شعارات من نوع إزالة إسرائيل من الوجود. لا يمكن لإيران أن تستخدم القنبلة ضد إسرائيل التي تمتلك ما بين المئتين وثلاثمائة رأس نووي. إيران لا تقاتل إلا بأجساد الآخرين, بأجساد اللبنانيين والفلسطينيين, علي سبيل المثال وليس الحصر. أكثر من ذلك, يظل أخطر ما في القنبلة الإيرانية أنها ستثير سباق تسلح في المنطقة لا يمكن أن يستفيد منه أي طرف. هل يمكن أن تكون إيران دولة نووية وأن تقف كل من تركيا ومصر والسعودية مكتوفة الأيدي؟
فشل الاتفاق الإيراني- التركي- البرازيلي, أقله إلي الآن, في تأجيل المواجهة بين إيران من جهة والولايات المتحدة وأوربا من جهة أخري وفي تأجيل حزمة جديدة من العقوبات يتبين كل يوم أن إيران غير قادرة علي تحملها. ستبقي مشكلة إيران مع المنطقة والمجتمع الدولي تراوح مكانها في غياب الرغبة في التصرف كدولة عادية وليس كقوة إقليمية مهيمنة. لا يمكن للعرب أن يقبلوا بهيمنة إيرانية عليهم. لا يمكن للبناني, بغض النظر عن مذهبه, إلا أن يكتشف, عاجلا أم آجلا, أن اللعبة التي تمارسها إيران في بلاد الأرز تصب في مصلحة إسرائيل عبر جعلها تظهر في مظهر الدولة المهددة, في حين أن إسرائيل دولة تمارس, عبر إصرارها علي احتلال الأرض, الإرهاب. ولا يمكن للفلسطيني إلا أن يدرك, في وقت ما, أن كل ما تشجع عليه إيران, أكان ذلك عبر دعم فوضي السلاح أو حركة ##حماس## أو منظمات أخري مفلسة سياسيا, إنما هو نشر البؤس واستمرار الانقسامات علي الصعيد الفلسطيني. إن كل دولة من دول المنطقة تشعر بأنها مهددة من إيران التي تريد أن تكون شريكا للولايات المتحدة في العراق واستغلال نفط العراق, وأن تؤكد لكل الدول المسالمة في الخليج, وصولا إلي اليمن, أنها تمتلك مفتاح الاستقرار داخل هذه الدول…
سيأتي يوم تظهر فيه حدود الدهاء الإيراني. لم يسقط صدام حسين لأنه تجرأ علي تلك المغامرة المجنونة في الكويت صيف العام 1990 فحسب, بل سقط أيضا وخصوصا لأنه لم يفهم أن لا مجال للعب أدوار إقليمية تفوق حجم العراق.
لا مجال, طبعا, للمقارنة بين غباء صدام والقدرة الإيرانية علي المناورة. هذا صحيح. لكن الصحيح أيضا أن إيران لم تعد تعرف أين يجب أن تتوقف. توحي تصرفاتها الأخيرة, بما في ذلك طريقة ردها علي الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة بأنها لم تعرف أن هناك حدا لا بد من التوقف عنده وأن احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث لا يمكن تسميته بشيء آخر غير كلمة احتلال. لا وجود لاحتلال ظريف وآخر كريه. الاحتلال هو الاحتلال.
بكلام أوضح, لن يحل الاتفاق الأخير مع تركيا والبرازيل مشكلة إيران. مشكلة إيران في مكان آخر, بما في ذلك استخفافها بموقف المجتمع الدولي من برنامجها النووي. في النهاية, هل مسموح لدولة من دول المنطقة يعيش القسم الأكبر من شعبها تحت خط الفقر أن تمد يدها الي خارج حدودها إلي ما لا نهاية.