من خلال تعاملاتي العديدة مع الإسرائيليين علي مدي العقود الأربعة الأخيرة, تعلمت ألا أهون, أو أقلل من شأن مخاوفهم الوجودية. وكما يذكرني دوما نتنياهو ـ ومن قبله رئيس الوزراء الراحل إسحاق رابين ـ فإن الإسرائيليين لا يعيشون في ضاحية خضراء هادئة من ضواحي واشنطن, وإنما يعيشون في بيئة أكثر خطورة من ذلك بكثير.
لذلك, لست في وارد التهوين من القلق الذي يشعر به الإسرائيليون, ولا الهيستريا التي تتلبسهم حاليا وهم يرون ما يتكشف أمامهم في شوارع القاهرة.
إسرائيل لا تستطيع إخفاء خوفها من قيام دولة ديموقراطية في مصر, التي تعتبر أهم حليف لها في المنطقة. فوفقا لحسابات الإسرائيليين الخاصة, فإن الحرية في مصر لا بد وأن تترجم في نهاية المطاف, إلي مواقف وأفعال ضارة, مناوئة لإسرائيل.
خوف إسرائيل يمكن التعبير عنه من خلال أسئلة من قبيل: هل يسيطر الراديكاليون الإسلاميون علي الحكومة الجديدة في مصر؟ هل ستقوم تلك الحكومة بإلغاء معاهدة السلام الموقعة بين البلدين؟
في الحقيقة يصعب تخيل إمكانية تبلور مثل هذه المخاوف علي أرض الواقع: فقادة مصر الجدد, بصرف النظر عمن سيكونون, سيجدون أنفسهم أمام تحديات داخلية ضخمة, ليس من بينها تحد واحد يمكن التغلب عليه من خلال مواجهة إسرائيل. فمصر الجديدة, سوف تكون بحاجة إلي مليارات الدولارات من الولايات المتحدة, والمجتمع الدولي, وبالتالي فإن انتهاك اتفاقية السلام الموقعة بينها وبين إسرائيل, سوف يكون آخر شيء تفكر فيه أو يحتاجه جيشها, خلال الفترة الانتقالية ـ التي من المؤكد أنها ستكون مشوبة بقدر كبير من عدم اليقين.
مع ذلك, ليس هناك شك في أن الحكومة المصرية الجديدة, التي يتوقع أنها ستكون أكثر تجاوبا مع الرأي العام, وستكون مدعومة بالطبع بشرعية مستمدة من الفوز في انتخابات حرة, سوف تكون أكثر انتقادا للتصرفات والسياسات الإسرائيلية, ولن تمنح إسرائيل ميزة الشك, كما كانت تفعل الحكومات المصرية, في عهد مبارك.
إذا ألقينا نظرة علي مواقع أخري في المنطقة- من المنظور الإسرائيلي – فسوف ندرك علي الفور السبب الذي جعل المخاوف الإسرائيلية علي هذه الدرجة من القوة والإلحاح. فإلي الشمال من إسرائيل, نجد لبنان الذي بات ##حزب الله## يسيطر علي الوزارة القائمة فيه في الوقت الراهن, ويهيمن علي ساحته السياسية, ويحتفظ بآلاف الصواريخ في ترسانته العسكرية ويحصل علي دعم ومساندة قوية من كل من دول إقليمية. وإلي الشرق من إسرائيل, هناك الأردن الذي ترتبط معه إسرائيل باتفاقية سلام, والذي أقيلت حكومته مؤخرا كرد فعل علي الاحتجاجات والتظاهرات, التي اندلعت علي وقع التظاهرات الحاشدة التي حدثت في تونس ومصر. وفي الضفة الغربية وغزة, هناك الحركة الوطنية الفلسطينية بتفرعاتها المعقدة, وهناك الانقسام بين ##فتح## و##حماس##.
إن إسرائيل بسبب قصر نظرها, وسياستها الاستيطانية الضارة, باتت دولة تعيش بالفعل علي حافة الخطر. وعلي الرغم من أن المقولة التي كانت تقول إن الإسرائيليين يحاربون العرب نهارا ويكسبون.. وعندما يحاربون النازي في المساء فإنهم يخسرون, قد تكون من المقولات التي عفا عليها الزمن, إلا أنها تعكس مع ذلك حقيقة المخاوف الإسرائيلية الأمنية المستمرة, كما تعكس جانبا مظلما من التاريخ اليهودي.. وكلاهما يجعلان إسرائيل في حالة من القلق الوجودي الدائم.
الموقف المصري الجديد الذي سيكون أكثر تصلبا بالتأكيد, لن يمثل مشكلة لإسرائيل فحسب بل سيمثل مشكلة لحليفها الرئيسي الولايات المتحدة كذلك. فالصفقة الشيطانية القديمة التي أبرمتها الولايات المتحدة مع مصر, والتي كانت تقوم علي الاعتماد علي القاهرة كحليف رئيسي في المنطقة, يضطلع بدور مهم في عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين, مقابل غض واشنطن الطرف عن الطريقة التي تحكم بها مصر, باتت شيئا من الماضي الآن بالتأكيد.
ربما يكون ذلك شيئا جيدا في حد ذاته, لأن الشعب المصري في الحقيقة يستحق ما هو أفضل, كما أن تلك الصفقة لم تؤد, في نهاية المطاف, إلي شرق أوسط, مستقر, وآمن, يسوده السلام. ويكفي أن ننظر ما حولنا حتي ندرك ذلك.
أما فيما يتعلق بمصر فإن تعطش شعبها للحرية, ولحكومة رشيدة, ولديموقراطية ناجحة, سوف يؤدي إلي تأمين مستقبل أفضل له. بخصوص أمريكا, فإن الديموقراطية المصرية, بصرف النظر عن حقيقة أنها تعد تطورا مرحبا به من حيث المبدأ, إلا أنها ستؤدي, لا شك, إلي تقليص فضاء الحركة المتاح أمام الإدارة الأمريكية في المنطقة سواء فيما يتعلق باحتواء بعض القوي الإقليمية, أو بعملية السلام في الشرق الأوسط, أو المعركة علي الإرهاب والإسلام الراديكالي, خصوصا إذا أصبح ##الإخوان المسلمون## جزءا من بنية الحكومة الجديدة.
في النهاية هناك حقائق لا يمكن لأحد أن يتجاهلها, وهي أنه من دون مصر, لن تكون هناك حرب ولا سلام في المنطقة. وخلال الثلاثين عاما الماضية, حرص الإسرائيليون من خلال علاقتهم بمصر علي تجنب الأولي والسعي لتعزيز الثاني.. كما أن معاهدة السلام مع الأردن, وتحييد العراق, والعلاقات الأمريكية- الإسرائيلية الخاصة جعلت الإسرائيليين, علي الرغم من مخاوفهم الدائمة, واثقين لحد كبير من قدرتهم علي التصدي لأي تهديد لأمنهم.
أما الآن ومع حالة الاضطراب, التي تمر بها السياسة المصرية, واحتمال وقوع اضطرابات في الأردن وأماكن أخري في العالم العربي, فإن الإسرائيليين لن يكونوا علي نفس القدر من الثقة الذي كانوا عليه قبل الخامس والعشرين من يناير الماضي.
** مستشار سابق لوزارة الخارجية الأمريكية وأستاذ بكلية السياسة العامة بمركز وودرو ويسلون الدولي للعلماء
واشنطن بوست