الآخر, هو المغاير للذات, المختلف عنا لسبب من الأسباب العديدة, سواء أكان هذا المختلف, داخليا أم خارجيا, فقد يكون فردا من عائلتنا, وقد يكون جارا لنا أو زميلا في العمل أو شريكا في الوطن, إن شرعية الرأي الآخر, إنما تستمد وفي الأساس من شرعية الاختلاف, وأيضا من شرعية الرأي ذاته, لأن ##الآخر## كما يقول علي حرب: يقبع في صميم ##الأنا## ولأن ##الأنا## تنبني أصلا بالعلاقة مع العالم, والوعي بالذات عبر الآخر, والشعور بالهوية إنما يبرز في مواجهة ##الغير##, فلا شرعية للرأي نفسه ولا وجود له إذا صادرنا شرعية الرأي الآخر ووجوده, كما أنه لا إمكانية لأي حوار قبل الاعتراف بالآخر وبحقه في الحياة وفي التميز والاختلاف.
يقرر الفقهاء ##الأصل في الإنسان الحرية##, بمعني أن الحرية ليست من الحقوق المكتسبة حتي يعطيها إنسان لآخر أو يسلبها منه, فالإنسان حر بأصل خلقته, والحرية ليست مجرد ##حق## في المنظور الإسلامي بل تتحول إلي تكليف ووجوب, يحاسب الإنسان إذا فرط أو تقاعس في أدائهما. والحرية لا تتجزأ, فهي عامة وشاملة لكل البشر ولكافة الحريات, وقد اعترف الإسلام بالحرية الدينية للآخرين سواء في المعتقد أو في ممارسة الشعائر وإن خالفت شعائر الإسلام انطلاقا من قوله تعالي: ##فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر##, وهل يبقي للحرية من معني إذا منعنا أصحاب الديانات الأخري من ممارستها عمليا؟! إن سنة الله قائمة علي ##التعددية## لا ##الأحادية##, وأي إلغاء للرأي الآخر أو مصادرته أو قمعه, يعد إلغاء للتطور وتجميدا للحياة, وأية محاولة لكبته, تؤدي إلي مزيد من المشاكل والتعقيدات, إن من حق الآخر تماما (كما من حق الذات) التعبير عن رأيه في كافة الشئون الفكرية والعقائدية والسياسية والاقتصادية… فلا مسوغ لإلغاء الرأي الآخر. إن الاعتراف بالآخر وجودا ورأيا, هو قوام الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي في مجتمعاتنا, ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم حضاريا بدون تكريس ##التعددية## وحمايتها, فالرأي الآخر, ضرورة تفرضها الطبيعة البشرية والحياتية والكونية, وهو تعبير عن واقعية الاختلاف في حياة البشر. نجد مصداق ذلك في تعدد الآراء الاجتهادية في الفقه والتشريع, وقد عبر الفقهاء عن هذا الاختلاف بكونه ##رحمة## إذ لو كان رأيا واحدا, لضاق به الناس, ووقعوا في ##الحرج## الذي حرص القرآن الكريم في العديد من آياته علي رفعه, وعدم تعريض الأمة لأي شكل من أشكال العنت والمشقة.
وأهمية الرأي الآخر في المجال السياسي بصفة خاصة أنه يرشد القرار السياسي, ويضمن التوافق المجتمعي, ويشكل ##صمام## أمان ضد الأخطار الداخلية والخارجية, ويجنب المجتمعات والدول الكوارث والهزائم… وذلك بما يتيحه من مناخ للحرية والتعددية يفرز السلام الاجتماعي في الداخل وينتج علاقة صحية ناضجة بدول العالم المتقدمة. أما في المجال التنموي فتبرز أهمية الرأي الآخر, كونه يساعد علي الوصول إلي الخطط التنموية المناسبة والملائمة لظروف المجتمع, وغياب الرأي الآخر هو العامل الأبرز في إخفاق خطط التنمية العربية في تحقيق أهدافها رغم الجهود المبذولة والموارد الكبيرة.
أما في مجال الأمن المجتمعي والاستقرار السياسي, فلا يخفي أن إفساح المجال أمام الرأي الآخر للظهور والانتشار, يشكل المتنفس الصحي العلني للجميع, إذ أن المناخ التعددي يستطيع احتواء كافة نوازع التمرد والرفض والمعارضة, احتواء سلميا ديموقراطيا يجنب الدول الهزات العنيفة والانقلابات الدموية. فالتعددية الفكرية والثقافية ثروة حضارية, إذ هي إفراز وتفاعلات لعقول كثيرة ومتنوعة قادرة علي العطاء والتنوع وأي توجه للحجر علي الرأي الآخر, يعد كارثة فكرية لأنه يسبب عقما وجمودا فكريا يهمش المجتمع ويعزله عن تيار الحياة المتدفق, لا أحد يملك الحقيقة المطلقة أو الصواب المطلق فيما يتعلق بالأفكار والأحكام والآراء المتعلقة بمجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع, ولا يوجد من يستطيع الادعاء بأن رأيه هو الأخير في قضية ما. يقول الله تعالي: ##وما أوتيتم من العلم إلا قليلا##. الحلول التي يطرحها الإنسان نسبية ومتغيرة ومحكومة بقدرته العقلية وبالإطار الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه, والحقيقة الكاملة عند الله, ومعني ذلك أن الاعتراف بشرعية الرأي الآخر هو سبيلنا الوحيد للوصول إلي جزء من الحقيقة الغائبة.
ورغم التطورات السياسية التي شهدتها الساحة العربية نحو قبول التعددية, فإنه علي مستوي الممارسات لا يزال الرأي الآخر في محنة; يعاني تقييدا وتضييقا يصل إلي المصادرة والتجريم في بعض الحالات. وفضلا عن اتهام الرأي الآخر بالتكفير هناك من يتهمه بالعمالة وخدمة الأعداء وتنفيذ مخططات تغريب المجتمع تحت شعارات ##الحداثة## و##العقلانية## و##التعددية##. ولا يكاد داعية الإصلاح السياسي يخلص من اتهامه في وطنيته, أما داعية الإصلاح الاجتماعي فمتهم بتغريب المرأة المسلمة, والذين يطالبون بإصلاح الخطاب الديني إنما يخضعون لإملاءات أمريكية تحت شعار محاربة الإرهاب! أما دعاة التسامح والسلام فهم دعاة استسلام وانهزام واستباحة! مأساوية الحالة العربية أن دعاة التغيير والإصلاح لا يكادون يأمنون علي أنفسهم وأولادهم, لا من السلطات الحاكمة بل من الصغار المغرر بهم من قبل منابر ومواقع وفتاوي محرضة.
محنة الرأي الآخر, مزمنة وغائرة الجذور في الأرض العربية, تمتد إلي صراع السنة والمعتزلة في القرن الثاني الهجري حول ##الفرقة الناجية##. لقد فرض مذهب الجمهور نفسه علي الساحة الفقهية وهمش الرأي الآخر ولم يسلم أصحابه من تهم التكفير والتفسيق والزندقة علي امتداد التاريخ الإسلامي وحتي اليوم. وللإنصاف التاريخي فإن ##الرأي الآخر## -أيضا- لم يكن بريئا دائما من لعبة التكفير والتفسيق; فالخوارج أقلية مثلت الرأي الآخر لكنها كفرت الأكثرية واستباحت دماءها, ونجد امتداداتها في عصرنا ممثلة في خطاب الجماعات المتشددة المكفرة, ونجدها -أيضا- في الخطاب التخويني لبعض الميليشيات الدينية كـ##حزب الله## في لبنان و##حماس## في غزة و##شباب المجاهدين## في الصومال و##طالبان## في أفغانستان وباكستان… فالرأي الآخر -المهمش- ما إن يتمكن ويقوي حتي يمارس نفس الدور الذي كان يشكو منه, وهذا يدلنا بوضوح علي أن العلة الحقيقية كامنة في أنه حتي الآن, لا توجد قناعة مجتمعية حقيقية بالثقافة التعددية.
أستاذ الشريعة بجامعة قطر