يبدو مفيدا في الظروف الراهنة التي يعيشها لبنان السعي إلي محاولة فهم طبيعة الصراع الدائر علي أرض الوطن الصغير بعد تكليف النائب سعد الدين رفيق الحريري تشكيل الحكومة الجديدة, وذلك بموجب الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها الرئيس ميشال سليمان. ما يكشفه التجاذب السياسي في البلد أن هناك إصرارا سوريا علي الثلث المعطل في الحكومة بهدف واضح كل الوضوح يتمثل في امتلاك دمشق حق الفيتو علي أي قرار وطني, أو حتي علي قرار تفصيلي صغير يمكن اتخاذه في إطار مجلس الوزراء مجتمعا. ما تنفذه المعارضة, عندما تصر علي الثلث المعطل أو علي بدعة التمثيل النسبي في الحكومة التي ينوي النائب سعد الحريري تشكيلها, هو تعليمات سورية لا أكثر ولا أقل. يريد النظام السوري إثبات أن لا شيء تغير في لبنان, وأن رهانه علي الوقت كان في مصلحته. يريد في الوقت ذاته تأكيد أنه عاد إلي لبنان من النافذة, هو الذي خرج من البوابة الحدودية في عام 2005 إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. بكلام أوضح, ينوي النظام السوري, ومن خلفه الإيرانيون الذين يرفضون الاعتراف بأن شيئا ما تغير في العمق في بلدهم نفسه, تأكيد أن المرجعية السياسية في لبنان لا تزال خارج لبنان أي في دمشق وطهران تحديدا… بعدما كانت محصورة بدمشق لفترة طويلة!
تكمن مشكلة النظام السوري في أنه لا يريد أن يتعلم من تجارب الماضي القريب. وتكمن مشكلة النظام الإيراني في أنه يعتقد أن الهجوم أفضل طريقة للدفاع وأن لا مشكلة داخلية لديه. تعكس العراقيل التي تضعها طهران ودمشق في طريق تشكيل الحكومة اللبنانية رغبة واضحة لدي النظامين في رفض الاعتراف بأنهما ليسا أكثر من نظامين مريضين علي كل منهما الاهتمام بشئونه الداخلية بدل البحث عن دور إقليمي في هذه المنطقة العربية أو تلك, أو في هذا البلد العربي أو ذاك. هل يستطيع النظام الإيراني ممثلا بالقيمين عليه أن يسأل نفسه لماذا كل هذه المقاومة التي يظهرها الشعب لأحمدي نجاد بكل ما يمثله تخلف علي كل الصعد, هل يستطيع النظام السوري أن يواجه الأسباب الحقيقية التي تدفع بآلاف العمال السوريين إلي السعي إلي إيجاد فرصة عمل في لبنان أو حتي في الأردن؟ وفي حال كانت الإجابة عن مثل هذا السؤال صعبة عليه, هل يستطيع إجراء دراسة ميدانية لحال المدارس والجامعات السورية ومستوي التعليم فيها ونوع المواد التي تدرس, وأسباب تصاعد موجة التطرف الديني في كل الأوساط الاجتماعية؟ لا حاجة بالطبع إلي طرح سؤال عن حال الزراعة السورية, أو البناء العشوائي في المدن وحولها وفي الريف, أو آخر عن النمو السكاني العشوائي في بلد لم يعد نفسه لمثل هذه الظاهرة السلبية. أما من يمتلك حدا أدني من الشجاعة, فيستطيع أن يسأل لماذا يعيش أفضل السوريين خارج سورية, ولماذا كل العقول السورية من أطباء ومهندسين وعلماء تبقي في الخارج, ناهيك عن كبار المستثمرين الذين في استطاعتهم عمل الكثير ليس في سورية وحدها, بل في لبنان أيضا؟
من يتحدث عن الثلث المعطل في الحكومة اللبنانية, أو عن التمثيل النسبي فيها يخدع نفسه أولا. النظام السوري يخدع نفسه قبل النظام الإيراني, لا لشيء سوي لأن عليه أن يدرك قبل غيره أن عهد تطبيق الطائف علي الطريقة السورية قد ولي, وأن البديل عن الطائف السوري ليس الطائف السوري- الإيراني. لقد عمل النظام السوري منذ التوصل إلي اتفاق الطائف في عام 1989علي تطبيقه حسب مفهوم خاص به تختصره صيغة أن المرجعية السياسية لكل زعماء لبنان بما في ذلك رئيس الجمهورية, ورئيس الوزراء, ورئيس مجلس النواب, هي في دمشق وليس في أي مكان آخر. أكثر من ذلك, أصرت دمشق علي تعيين كبار موظفي الدولة اللبنانية, وعلي إبعاد السفراء الذين لا ترضي بهم. وهذا ما حصل في مرحلة ما مع السفير سيمون كرم عندما كان في واشنطن, وذلك علي سبيل المثال وليس الحصر… أبعد سيمون كرم لأن السوريين كانوا غير راضين عنه وكانوا يصرون علي تركه للعاصمة الأمريكية!
نجح النظام السوري في فرض تفسيره لـ الطائف بفضل عاملين أساسيين. تخلص أولا من الرئيس رينيه معوض في نوفمبر من عام .1989 كان الشهيد رينيه معوض يرمز إلي طائف مختلف ليس معاديا لسورية لكنه يحافظ علي العلاقات المتوازنة للبنان إقليميا ودوليا, ويسمح لرئيس الجمهورية اللبنانية بلعب دوره التوافقي علي الصعيد الوطني بدل أن يكون مجرد مدير عام لدائرة ما في الرئاسة السورية كما كانت حال ذلك الرئيس الذي يخجل المرء من ذكر اسمه. أما العامل الآخر الذي ساعد في جعل الطائف ينفذ حسب المواصفات السورية, فكان شخصا اسمه الجنرال ميشال عون الذي قاد التمرد علي الطائف من قصر بعبدا, فإذا به يلعب دورا حاسما في تحويل الطائف اللبناني- العربي إلي طائف سوري بعدما خاض حروبا خاسرة سلفا عادت علي اللبنانيين, خصوصا المسيحيين منهم بالويلات. المضحك- المبكي أن السوريين ساعدوا ميشال عون في حروبه التي مكنتهم من دخول قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة للمرة الأولي منذ استقلال البلد في عام .1943
ما لا يستطيع النظام السوري استيعابه حاليا أن لا عودة إلي الطائف السوري, وأن كل القواعد الفلسطينية التي يقيمها في الأراضي اللبنانية لن تسهل له ذلك. ولن تنفعه في ذلك أدواته المحلية, ولا أدواته الإيرانية ولا أدوات الأدوات المعروفة التي تدعي أن لديها كتلا نيابية كبيرة. في استطاعة السوريين والإيرانيين في النهاية أن يركبوا لميشال عون أطرافا اصطناعية تمكنه من الادعاء بأن لديه كتلة كبيرة. لكنهم لا يستطيعون في أي شكل أن يزرعوا في رأسه عقلا, خصوصا أن بقية ما كان لديه من عقل تبخرت بعدما هزمته في دائرة بيروت الأولي شابة اسمها نايلة جبران تويني أسقطت أفراد لائحته وعددهم خمسة فردا فردا… الواحد بجريرة الآخر!
لا عودة إلي الطائف السوري ولا عودة إلي الطائف الإيراني أيضا. قبل أن تتكشف حقيقة النظام الإيراني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أظهرت أن الشعب الإيراني, مثله مثل الشعب اللبناني, يتوق إلي ثقافة الحياة والحرية والكرامة والاستقلال, سقط حزب الله بسبب لعبة السلاح, تماما كما سقط قبله المسلحون الفلسطينيون الذين ارتدوا من الجنوب علي بيروت وأقاموا فيها جمهورية الفاكهاني في السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي. في إمكان كل من يرفض تصديق هذا الكلام عرض مسيرة حزب الله في الأعوام الثلاثة الأخيرة. كان الحزب الذي ليس سوي لواء في الحرس الثوري الإيراني يتذرع بإسرائيل للاحتفاظ بسلاحه. اعتدت إسرائيل علي لبنان صيف عام 2006, ولابد من الاعتراف بالبطولات التي أظهرها مقاتلو الحزب في مواجهة العدو, ولابد من السجود أمام كل شهيد من الشهداء. ولكن بعد انتهاء الحرب التي عادت بالكوارث علي لبنان وبعد صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن, لم يعد للسلاح دور اللهم إلا إذا كان المطلوب تكرار السابع من مايو 2008, أي غزوة بيروت والجبل, وإثارة الغرائز المذهبية البغيضة التي لا تخدم سوي إسرائيل. صار السلاح الإيراني موجها إلي صدور اللبنانيين الشرفاء فعلا. الثلث المعطل في الحكومة يستهدف تعطيل الحياة السياسية في لبنان ومنع رئيس الجمهورية ميشال سليمان من لعب دور المرجعية. كل ما هو مطلوب أن تبقي مرجعية لبنان واللبنانيين في دمشق وطهران. انها معركة الطائف.
الطائف اللبناني- العربي الذي يؤمن به اللبنانيون. ذلك هو معني المعركة التي تدور رحاها في لبنان الآن. أنها بالفعل معركة الحرية والسيادة والاستقلال والتخلص من الوصاية… معركة رفض الطائف السوري- الإيراني بديلا من الطائف السوري!
الراي الكويتية