إن التعديل المهم بإدراج مبدأ ” المواطنة ” والنص عليه في صدر الدستور المصري الذي تم خلال عام 2007 , والذي نص علي أن : ” جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديموقراطي يقوم علي أساس المواطنة ” , يمثل فرصة واعدة لبلادنا الحبيبة مصر لتطورات إيجابية فيما يتعلق بتفعيل مبدأ المواطنة واحترام حقوق الإنسان ., غير أن وجود مبدأ المواطنة في المادة الأولي من الدستور لا يمثل في حد ذاته نهاية المطاف , بل إنه بداية لطريق طويل نحو التطبيق الفعلي لتحويل مبدأ المواطنة من نص دستوري إلي واقع حي معاش .
وحتي لا يكون هذا المبدأ مجرد كلام علي الورق فقط بل يتحول إلي واقع ملموس يعيشه المواطنون جميعا بلا تمييز في حياتهم اليومية , فقد أوصي إعلان حقوق المواطنة الصادر عن المؤتمر العام للمواطنة الذي عقد برعاية المجلس القومي لحقوق الإنسان في 25 نوفمبر الماضي باعتبار عام 2008 هو ” عام حقوق المواطنة ” ومن المنتظر أن يتم خلال هذا العام تفعيل حوار وطني شامل بهدف إعداد التشريعات ووضع السياسات اللازمة لتعزيز مبدأ المواطنة وتحويله لبرامج عمل وواقع يلمسه المواطنون رجالا ونساء وشبابا وأطفالا بلا تمييز من حيث الجنس أو الدين أو الطبقة أو الفكر أو الانتماء السياسي .
ومن جانب آخر نظم منتدي الشرق الأوسط للحريات يومي 28 و29 نوفمبر 2007 مؤتمره الافتتاحي في القاهرة بعنوان ”إلي أين تتجه مصر” وسط مشاركة حشد كبير من المفكرين والمثقفين من مختلف ألوان الطيف السياسي والثقافي في مصر , ودارت قراءات المشاركين لمستقبل مصر في مجالات عديدة منها المواطنة وحقوق الإنسان , وأعلن الباحث المصري مجدي خليل مؤسس المنتدي أن المنتدي يهدف أن تكون مصر دولة مدنية حديثة ديموقراطية حرة مزدهرة لكل المصريين علي أرضية المساواة والمشاركة والمواطنة الكاملة .
هذا ويرتكز مبدأ المواطنة علي ركنين أساسيين هما : المشاركة والمساواة .. فالمواطنة تضمن لصاحبها – الذي ينتمي للتراب الوطني – المساهمة الإيجابية في ممارسة السلطة في بلاده , من خلال المشاركة في مؤسسات الحكم السياسية والدستورية , ولا تكون صفة المواطنة إلا لمن يشارك في حكم بلده , أما الأفراد المقيمون علي أرضها , فيجبرون علي الانصياع للأوامر الصادرة دون أن يسهموا بشكل ما في إعدادها وإصدارها .. هؤلاء السكان لا يمكن اعتبارهم مواطنين أي أعضاء أصلاء في الجماعة السياسية ويساهمون في توجيه حياتها .
ويعتبر وعي الإنسان بأنه مواطن أصيل في بلاده , وليس مجرد مقيم يخضع لنظام دون أن يساهم بشكل ما في صياغة هذا النظام , هذا الوعي بالمواطنة يعتبر نقطة البدء الأساسية في نظرته إلي نفسه وإلي شركائه في المواطنة , فعلي أساس هذه المشاركة تأتي المساواة : فلكل مواطن نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات , ومن ثم يأتي جهد الشخص في إطار الجماعة لممارسة صفة المواطنة والتمسك بها والدفاع عنها .
ويعد العمل السياسي هو التعبير عن المواطنة -علي صعيد الواقع- فمن خلال هذه الممارسة يضع المواطن حقه في المشاركة الدستورية موضع التطبيق , ولا تكتمل صفتنا كمواطنين إلا بالحصول علي بطاقة الانتخاب,وبممارسة الحقوق التي تكفلها هذه البطاقة لصاحبها , والإهمال في الحصول علي هذه البطاقة يعني الاستقالة من صفة المواطنة .
وليس الأمر مجرد قيد في جدول الناخبين أو الاشتراك في انتخاب أعضاء المؤسسات المختلفة فقط , بل إنه مشاركة في حياة الوطن في كافة مجالاتها بمختلف الأساليب التي كفلها الدستور ونظمها القانون بدءا من إبداء الرأي في الشأن العام , وبلاشك لا يمكن أن تكون هذه المشاركة ذات وزن وفاعلية إن لم يستكمل المواطن متطلباتها بإعداد نفسه للقيام بهذه المهمة .
ولكي يعد المواطن نفسه للمشاركة الفعالة لابد أولا من توفر الوعي بالمشاكل التي يواجهها الوطن في المرحلة الراهنة , والتأمل في الحلول الممكنة , ولابد من القراءة وإعمال الفكر والحوار مع الآخرين ومتابعة ما يدور علي الساحة في الحياة العامة .. هذا كله هو الأساس الذي يستطيع المواطن أن يبني عليه نشاطه السياسي , وفي هذا المجال لابد من الوعي التاريخي بمراحل الحركة الوطنية والدستورية ., ولما صار العالم اليوم بمثابة قرية صغيرة وأصبحنا في عصر تلاشت فيه المسافات بين الدول , فلا يكمل وعي الإنسان إلا بالتعرف علي ما يجري علي الساحة الدولية من تغيرات سياسية وثقافية , والحد الأدني من هذا الإعداد وبدايته , يتحقق بمتابعة وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية , وإعمال الفكر والتأمل في مضمون ذلك كله .
وحيث إننا نضع الآن نصب أعيننا البحث عن طريق لتفعيل المواطنة الحقيقية بين جميع المواطنين , فعلينا أن نفرز أي موقف أو قانون أو قرار يتعارض مع المفهوم السليم للمواطنة , وعلينا أن نستبعد القيم والنظريات التي تدعم السلطة المطلقة أو تبرر إهدار إرادة المواطنين وكرامتهم وأمنهم , أو تفرق بينهم في التمتع بالحقوق وأداء الواجبات , مهما كانت قيمة السند الذي يقدم لتبرير هذا الحرمان أو التفرقة , وعلينا أيضا حماية المستضعفين والمهمشين اجتماعيا للوصول إلي عدالة اجتماعية للجميع .
وبما أن القاعدة الأساسية للدستور هي العدل المطلق بين أبناء الوطن الواحد , لذا فاختلاف الدين يجب أن يظل محصورا في نطاقه , فلا يمس علي أي نحو وحدة التوجه السياسي , وفي هذا المجال ما أجمل مبدأ ”الدين لله , والوطن للجميع” الذي صيغ إبان ثورة 1919 المجيدة , والذي يعبر عن وحدة الكيان التي تحتضن تعدد الأديان , فلكل مؤمن بدين أن يمارس تدينه وعبادته لله بحسب أحكام دينه , وفي نفس الوقت يحترم حرية الآخر بغض النظر عن عقيدته أو انتمائه الديني , لذا فمهما قيل ومهما ظهرت الحساسيات والمشكلات في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في مصر , فلا يستطيع أحد أن ينكر الواقع البديهي وهو أننا جميعا ننتمي لوطن واحد ونرتبط بمصير واحد , مما يستلزم بذل مساع جادة لتجاوز الطائفية , وتوطيد وترسيخ العلاقات بين أبناء الوطن الواحد علي أساس قيم المواطنة الكاملة .. تلك القيم التي يتأسس عليها كل مجتمع عصري سليم .
وأخيرا .. نأمل أن تنجح هذه المحاولات وأن تساهم هذه الجهود وغيرها في إحياء النهضة المصرية من أجل مستقبل أفضل لنا ولأبنائنا , فمصر العزيزة تحتاج إلي الكثير من العمل الجاد المخلص لمزيد من التقدم والارتقاء .
+ كاهن كنيسة مار مينا الأثرية بطحا الأعمدة
[email protected]
المنيا