هل يمكن أن يستغرق مشروع قانون مهما كانت درجة خطورته وأهميته أكثر من ثلاثين عاما من الدراسة والبحث داخل أدراج وزارة العدل ورغم كل ذلك لا يصدر؟! هذا ما حدث بالفعل مع مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد لجميع الطوائف المسيحية في مصر. لقد كشف حكم المحكمة الإدارية العليا الأخير بإلزام الكنيسة بزواج مطلق للمرة الثانية عن الحاجة الملحة إلي ضرورة إصدار هذا القانون الذي يقطع علي الكثيرين إمكانية رفع قضايا أو الحكم بقوانين لا تناسب الشريعة المسيحية, ويمنع وجود تعارض بين الأحكام المدنية والعقيدة المسيحية.
تعود المشكلة إلي عام 1955 عندما أصدرت الدولة قانون الأحوال الشخصية للأقباط الذي استمد أحكامه من لائحة 1938 التي كانت تجيز الطلاق لتسعة أسباب, وفي العام نفسه ألغت الدولة المحاكم الشرعية للمسلمين والمجالس الملية للأقباط. وكان كل منهما يحكم في الأمور المتعلقة بالأسرة وفقا للعقيدة. واستمر الحكم في الأحوال الشخصية ثم في محكمة الأسرة, وفقا لقوانين الأحوال الشخصية لكل طرف, وفي عهد البابا كيرلس السادس 1958 – 1971 قدمت الكنيسة مذكرة بتاريخ 1962/10/22 طالبت فيها بتغيير قانون 1955. وفي عهد البابا شنودة الثالث رفض قداسته الاعتراف بالتوسع في أسباب الطلاق, علي أن يقتصر الأمر علي علة الزنا وفقا لتعاليم الكتاب المقدس.
في عام 1978 اجتمعت كل الطوائف المسيحية وصاغت مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية للطوائف المسيحية, وقعه رؤساء جميع الكنائس المسيحية في مصر, ومندوبو الكنائس التي لها رئاسة خارج مصر مثل الموازنة والسريان والأرمن, لكن الحكومة وضعت المشروع في الأدراج. وفي عام 1998, وبعد تفاقم مسألة الأحوال الشخصية وتزايد شكاوي الأقباط أعيد تقديم مشروع القانون مرة أخري, بعد تنقيحه بناء علي طلب وزير العدل الأسبق فاروق سيف النصر ووقع عليه أيضا كل من رؤساء الكنائس المسيحية في مصر. ومرة أخري لم يتحرك المشروع إلي الآن!!
مثال اللائحة القديمة
قال جوزيف صبري مدرس مادة الأحوال الشخصية بالكلية الإكليريكية بشبرا الخيمة في عرضه لبعض بنود لائحة 1938 واعتراضات الكنيسة: الزواج عند المسيحيين يعد سرا من الأسرار السبعة, تتولي الكنيسة منذ تأسيسها عقده وصيانته, ولا تحله إلا في نطاق ضيق وبشروط محدودة حفاظا علي كيان الأسرة من التفكك والانحلال.. وللزواج المسيحي قوانين وتشريعات مستقاة من الكتاب المقدس, ومن تقاليد الكنيسة الموروثة عن الرسل والآباء القديسين علي مر الأجيال.
أورد المشروع المصري أن الأحوال الشخصية تشمل المنازعات والمسائل المتعلقة بحالة الأشخاص.. أو المتعلقة بنظام الأسرة كالخطبة والزواج وحقوق الزوجين وواجباتهما المتبادلة والمهر ونظام الأموال بين الزوجين والطلاق والتطليق والتفريق والبنوة والحجر والغيبة واعتبار المفقود ميتا. واستبعد المشروع المسائل التي تم توحيدها لتطبق بالنسبة لجميع المصريين – أيا كانت ديانتهم – وهي أحكام المواريث, الأهلية, أحكام شخصية المفقود, الهبة….
أضاف صبري: بذلك يكون المشروع قد فصل قضايا المواريث والهبة والتبني التي تطبق فيها الشريعة الإسلامية عن قضايا الزواج والطلاق والنفقة الأحوال الشخصية وتطبق فيها لائحة 1938 والتي تجيز التطليق لأسباب عديدة وتطالب الكنيسة بتغييرها, وهنا يبدأ أول تساؤل حول كيفية تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المواريث علي مواطن مسيحي لا يؤمن بالإسلام وديانته لا تفرق في الميراث بين الرجل والمرأة.
استطرد صبري: تعترض الكنيسة علي ما يعرف باتحاد المتفاضين في الطائفة والملة والمذهب فإذا تم تغيير الملة يتم الحكم بمبادئ الشريعة ومن ثم تصدر المحكمة حكما بالتطليق والغريب أن القانون نص علي أن تغيير الملة أو الطائفة يجب أن يكون قبل رفع الدعوي القضائية لكنه استثني فقط التغيير إلي الديانة الإسلامية حيث يحكم القاضي بالشريعة حتي في حالة تغيير المواطن لديانته بعد رفع الدعوي. المشكلة الحقيقية تكمن في الاختلاف بين القوانين المعمول بها أمام القضاء المصري والقانون المعمول به أمام الكنيسة ففي المحاكم الكثير من التسهيلات في الأحكام فيأخذ الإنسان حكما من القضاء بالتطليق ثم يأتي إلي الكنيسة والتي لها وحدها حق التصريح بالزواج ويقف أمام المجلس الإكليريكي العام المختص بإصدار التصاريح. ولأن المجلس تحكمه قوانين مختلفة تماما عما هول معمول به في المحاكم فهنا تظهر المشكلة الحقيقية لأنه ليس كل من حصل علي الطلاق بالمحاكم يمكن أن يحصل علي تصريح بالزواج من الكنيسة.
الجديد في مشروع القانون
عن أهم ملامح مشروع القانون الموحد للأحوال الشخصية لجميع الطوائف المسيحية قالت الأستاذة جورجيت قليني عضو مجلس الشعب وعضو المجلس الملي العام:
الكنيسة منذ عهد المتنيح البابا كيرلس السادس وهي تسعي مع الدولة لتغيير هذه القوانين لتتمشي مع قوانين الكنيسة, ولذلك كلف المتنيح البابا كيرلس في الماضي نيافة الأنبا شنودة أسقف التعليم وقتها لدراسة اللائحة وتقديمها للدولة وقدمت فعلا للدولة في الستينيات. واعتبرت المحكمة الدستورية أن لائحة 1938 تعد في مصاف القوانين لذك يجب تغييرها بقانون جديد. ولأول مرة في العالم يتجمع عدد من الطوائف المسيحية المختلفة ويوقع رؤسائها علي مشروع موحد لقانون الأحوال الشخصية للمسيحيين تقدم به قداسة البابا شنودة الثالث لوزارة العدل عام 1980 بعد أن اجتمعت من أجله جميع الكنائس والطوائف المسيحية في مصر لكنه ظل حبيس الأدراج ثم تم تحويله إلي مشيخة الأزهر التي أبدت بعض الملاحظات طلبت تعديلها في مشروع القانون ثم اجتمع رؤساء الطوائف مرة أخري 1998 وقدم المشروع بعد إجراء التعديلات مرة أخري ومازال حبيس أدراج وزارة العدل!!
أضافت جورجيت: الكنائس وضعت مشروع القانون في 146 مادة تنظم مسائل الأحوال الشخصية لجميع الطوائف من زواج وطلاق أو تطليق أو ميراث وحضانة الصغار وغيرها من مسائل الأحوال الشخصية للمسيحيين, وهو يقضي علي الثغرات القانونية التي ينفذ منها المتلاعبون للحصول علي الطلاق بالمخالفة لأحكام الإنجيل. ومن أهم ملامح هذا المشروع تفادي التحايل للحصول علي الطلاق من خلال التأكيد علي شريعة العقد كأساس فيستمر الزواج حتي في حالة تغيير الملة وتطبق الشريعة المسيحية. وهذه النقطة جاءت تحديدا لمواجهة ظاهرة تغيير الملة بين المسيحيين لتطبيق الشريعة الإسلامية كما تم التوسع في إثبات جريمة الزنا بعد أن كانت قاصرة علي التلبس أو بشهادة شاهدين فأخذ مشروع القانون بالدلائل والقرائن كما حدد المشروع حالات بطلان الزواج بدقة وتوسع في بعضها. ووزعت مواد القانون علي خمسة أبواب الأول في الزواج وما يتعلق به ويتضمن الخطبة وأركان الزواج وشروطه وموانع الزواج وإجراءات عقد الزواج وبطلان عقد الزواج ثم حقوق الزوجين وواجباتهما أمام الباب الثاني فيخص النفقات والباب الثالث يتناول ما يجب علي الولد لوالديه وما يجب له عليهما, ويتضمن فصلين حول السلطة الأبوية والحضانة ويتناول الباب الرابع ثبوت النسب وأخيرا الباب الخامس في انحلال الزواج هذا بالإضافة إلي إدراج موضوع التبني.
استكملت قليني: في ظل الوضع الحالي يستفيد البعض من تعدد اللوائح الموجودة ويغير ملته من أجل الحصول علي حكم قضائي بالتطليق ثم يطلب من كنيسته السماح له بالزواج مرة ثانية طبقا لمراسم وتعاليم المسيحية. وهو ما تجلي في الحكم الذي صدر مؤخرا بإلزام الكنيسة بإتمام الزواج الثاني لمطلق, ويضع هذا التعدد الكنيسة في موقف محرج.
وحول كيفية تحريك القانون ليصل إلي مجلس الشعب قالت النائبة جورجيت قليني: حاولت تحريك مشروع القانون من خلال الحزب الوطني وحصلت علي وعد بمناقشته مع وزارة العدل ومعرفة أسباب تأخيره, فالحاجة ملحة للقانون لأنه يقفل باب التحايل والتي سمحت بوجود عدد من الأحكام التي تخالف آيات صريحة في الكتاب المقدس. طبقا للدستور من حق النواب أن يتقدموا بمشروعات قوانين لكن في الواقع إن لم تكن الحكومة هي القائمة بتقديم القانون فلن يدرج في جدول الأعمال أو تتم مناقشته وذلك حتي في القوانين العادية وعلي سبيل المثال قدمت قانون عقاب بيع الأطفال منذ 3 سنوات وقالت وزارة العدل إنها تحتاج وقت للنقاش.
دعوي قضائية
نبيل غبريال المحامي رفع دعوي أمام القضاء الإداري بشأن إقرار مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للأقباط اختصم فيها السيد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير العدل ورئيسي مجلسي الشعب والشوري بصفتهما حول أسباب تأخر صدور القانون ومصيره قال: بعد أن تعددت أحكام القضاء في دعاوي الأحوال الشخصية الخاصة بالأقباط والتي تتعارض مع أحكام الدين المسيحي وتعاليم الإنجيل قررت رفع الدعوي لمعرفة مصير مشروع القانون خاصة بعد أن وافق عليه الأزهر ولا يوجد أي سبب معلن لبقائه داخل الأدراج بوزارة العدل هذه المرة. والقضية مؤجلة حتي أول أبريل القادم.
رد وزارة العدل
وطني توجهت إلي وزارة العدل تسأل عن مصير القانون, وهل تم الانتهاء من دراسته؟ وهل هناك أمل في تقديمه إلي مجلس الشعب.. إجابات المستشار سري صيام رئيس إدارة التشريع بوزارة العدل ومستشار وزير العدل, – وهي الجهة المسئولة عن مناقشة مشروعات القوانين – جاءت مقتضبة وتضفي مزيدا من الغموض علي مصير المشروع والأسباب الخفية التي تقف حائلا أمام تقديمه لمجلس الشعب؟ قال: بالطبع المشروع جاء إلي الوزارة وتسملته لكن لم تنته من دراسته حيث تم تشكيل لجنة وتحتاج إلي وقت كاف للدراسة والتروي والفحص قبل تحويل القانون خاصة أنه من القوانين بالغة الأهمية وذات الحساسية ويتعلق بقطاعات عريضة من الطوائف المسيحية.
سألت وطني حول عدم كفاية أكثر من ثلاثين عاما لمناقشة القانون أجاب المستشار سري صيام: أن الإدارة لها أجندة تشريعية توضع فيها أولوية التشريعات والتي يقوم بوضعها ليس الإدارة فقط بل الوزارة ككل. وفي النهاية رفض مستشار وزير العدل الإجابة عن تساؤلاتنا حول موقع مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين من هذه الأجندة؟ وهل اللجنة اجتمعت بالفعل لمناقشة المشروع؟! وهل هناك أمل إن كانت اللجنة اجتمعت في أن يقدم إلي مجلس الشعب قريبا وذلك بسبب حساسية الوضع؟!!