عندما وضعت الحروب الدينية بين الفرق المسيحية أوزارها واستقرت المذاهب واستقلت كل كنيسة بجغرافيتها,امتد النظر إلي الماضي يسائله عن مبررات ما حدث وعن التاريخ الذي صبغته الدماء والعداوات وعن أبطال تلك المحن وضحاياها؟وكيف يستمر حضورها في الذاكرة وفي الواقع؟ويعتبر المتحف الدولي للإصلاح الديني بجنيف,الذي افتتح أبوابه منذ عامين إحدي محاولات الإجابة علي مجمل هذه التساؤلات.
لهذا المتحف طابع متميز,إذ هو المؤسسة الوحيدة علي المستوي العالمي التي تختص بحفظ تراث حركة الإصلاح الديني,التي شهدت نشأتها جنيف علي يد جون كالفان وطبعت التاريخ الأوربي خلال أكثر من ثلاثة قرون من الحروب والعداوات بين الإخوة الأعداء.
وتتزامن نشأته مع عودة الدفء للعلاقة بين الكنيستين,وفي لحظة يكثر الحديث فيها عن العودة القوية للقناعات الدينية,هذه العودة التي حملت معها أسئلة واستفهامات لدي النخبة والجمهور علي السواء.
وبمجرد عبور عتبة المتحف المسكون بالتاريخ تتراءي للزائر الآثار المعروضة من كتب ولوحات وقطع فضية,تروي كل واحدة منها محطات مختلفة لتاريخ طويل ,أبطاله رجال مصلحون أو ساسة مدافعون عن عروشهم المهتزة تحت طرقات العقل الحديث.
والذين يزورون هذا المتحف من أهل البلد أو ممن قطعوا بحارا ومحيطات,لم يأتوا للتنزه والسياحة فقط,بل جاؤوا يحملون معهم أسئلة تسأل التاريخ من حيث جاء,وكيف تشكل تراثهم الثقافي والديني؟
وسواء كان الزائر مؤمنا أو غير ذلك,تقول إيزابيل غرايسلي,مديرة المتحف:تنفجر عواطفهم وانفعالاتهم بشكل غير عادي وعند انتهاء الزيارة,يقتنعون بأن أصولهم وهويتهم تضرب بجذورها في تربة الإصلاح الديني.
هؤلاء الزوار في أغلبهم من أتباع الكنيسة البروتستانتية من السويسريين والأجانب,وما يتمسكون به ليس بالضرورة العقائد والتعاليم,بل الثقافة والقيم التي مجدها الإصلاح الديني كحرية التفكير والحرية الشخصية وكرامة الذات الإنسانية,التي عانت طويلا من استبداد المؤسسة الدينية في الغرب.
عرض التاريخ بدون تزييف
ورغم أن الثقافة المسيحية تمجد التواضع وتمتدح التكتم وترفض الطابع الاستعراضي, فإن ما يهدف إليه القائمون علي هذا المعرض,عكس ذلك تماما,إذ تقول مديرة المتحف:نريد أن نضع حدا لهذا التواضع الذي هو في غير محله,ومنذ الآن سنقول الحقائق كما هي وسنعرض التاريخ بدون مغالطات أو تزييف وسنعرض في نفس الوقت الوجوه النيرة والوجوه المظلمة.
ومن المحطات المظلمة في تاريخ البروتستانتية المعروضة في المتحف,إعدام كالفان لمعارضيه حرقا في جنيف ,والدور المتواطيء لرموز الكنيسة البروتستانتية مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية.لكن الغالب علي القطع المعروضة ,الطابع التبشيري الذي يمجد ما أضافته البروتستانتية للثقافة والحضارة الأوربية وهذا هو الغرض الأساسي من المتحف,مثلما توضح السيدة غرايسلي.
وتستأثر العلاقة بين مدينة جنيف والكالفينيةباهتمام خاص,إذ ارتبط دخول جنيف للعصر الحديث بهذه الحركة الإصلاحية وبفضلها تحول مجتمعها من مجتمع تقليدي إلي مجتمع مقبل علي الحياة وساعيا إلي الرفاهية الاجتماعية.
وبفضل الإصلاح ,أصبح بإمكان سكان جنيف في ذلك العصر,كسب المال والترفيه عن النفس وتسمية أبنائهم بالأسماء التي يختارون. وتعكس اللوحات المعروضة في المتحف هذه العلاقة الشائكة بين كالفان وجنيف. فمن أهل جنيف من يعتقد أنه لولا كالفان لما كانت جنيف اليوم علي ما هي عليه من تقدم وإشعاع ورفاهية في حين لايزال يعتقد البعض أن جنيف دفعت غاليا ضريبة الإصلاح من الأرواح والممتلكات.
إستراتيجية واضحة ومنسجمة
لايعير القائمون علي المعرض اهتماما كبيرا للانتقادات التي توجه لهم بسبب الخط المحافظ الذي يسوده,أو إغفالهم لدور المرأة في حركة الإصلاح,أو تجاهلهم للمدارس الفلسفية والأديان الأخري ذات الانتشار الواسع في مدينة كالفان,الجواب واضح,فكل الاهتمام منصب علي الحركة الدينية المنبثقة عن الحركة الإصلاحية,ونريد أن نبقي منسجمين مع الوظيفة الأساسية لهذا المتحف.
ناهيك أن هذه الانتقادات تفتقد الموضوعيةحسب كلام مديرة المتحف,فالنساء اللاتي تميزن في عصر الإصلاح الديني,كن قليلات جدا,وربما ما خسرته المرأة في حركة الإصلاح أكثر مما ربحته ,وحوار الأديان أصبح اليوم في مأزق وتحيط به الغيوم من كل جانب ,وهناك انكفاء علي الذات,خوفا من الاستلاب وفقدان الهوية.
في المقابل,لايكتفي المعرض بإلقاء الضوء علي ماضي البروتستانتية بل يسعي متسلحا بمبادئها إليالإسهام في صياغة رؤية للحاضر وغرس الأمل في مستقبل أفضل,حتي في أكثر اللحظات ظلمة كالأزمة التي تمر بها الإنسانية اليوم والتي تمس في العمق هوية الأفراد والجماعات وواقع الإنسانية عامة,الذي لم يشهد تمزقا وحروبا مثلما يشهد اليوم في عصر العولمة.
إن عرض تراث حركة إصلاحية دينية في متحف,ليس بالأمر الهين,لكن المتحف تجاوز هذه الصعوبة باقتدار,حيث وظف عارضوه تقنيات فنية وصوتية عالية الجودة,أدخلت الكثير من الحيوية علي العديد من القطع المعروضة وخصصت غرفا للموسيقي الدينية ووضعت في متناول أيدي الزوار أفلاما وثائقية عدة حول أحداث تاريخية متباعدة زمنيا.
هذا الثراء والتنوع,أهل المتحف للفوز بجائزة أفضل متحف أوربي لعام 2007 ,وهي جائزة ثقافية يسندها المجلس الأوربي لأفضل متحف خلال السنة,وجعله أيضا موضع استقطاب لكل المقتنيات المتعلقة بحركة الإصلاح الديني في العالم,كالمخطوطة مثلا التي ااستعادها المتحف هذه السنة,وهي رسالة بخط يد جون كالفان كتبها بنفسه يوم 23 يونية 1545,وقد اشتراها لصالح المتحف أحد المحسنين البريطانيين بمبلغ قدره 70 ألف جنيه إسترليني.
هذا التميز نفسه جعل عدد زوار المتحف يبلغ 25 ألف شخص عام .2006