ثالثا- العلم بأنواعه روحيا وماديا:
فنحن كما قلنا لا نؤمن بناء علي عاطفة هوجاء, تثور ثم تهدأ. بل بناء علي اقتناع يساند العاطفة.
نحن نريد العلم لأن الجهل شر.
وإذا كنا نريد الفضيلة, فإننا لا نرضي بالجهل. يجب أن ندرس ونبحث, ونتعلم ونعلم. نحن لا نقنع بما يقال لنا, ولكننا نفتش بنفوسنا عن الحقيقة. نقرأ ونناقش حتي نقتنع فنؤمن, وإذا آمنا فلا نتزعزع.
كذلك نحن شباب الكنيسة يهمنا أن ننال من الدرجات العلمية أرفعها. فلا نزهد في العلم أبدا. كلما تقدمت بنا الأيام كلما تشوقنا لمعرفة أكبر.
كما أننا يجب أن لا نقنع باالنجاح العادي. يجب أن نجاهد حتي لا نترك ثغرة لمتحيز يسلبنا حقنا في الحياة. يجب أن نتقن, فالإتقان من فضائل المسيحية, يجب أن ننمي ملكاتنا الفكرية, واستعدادنا للبحث العلمي ما أمكن ذلك.
هذه الدعوة يجب أن ننشرها في مدارس التربية الكنسية بين الأطفال والشباب جميعا. إننا نريد أن نقدم لله إخلاصا ونزاهة وعملا.
وخدمتنا في الحياة الاجتماعية يجب أن نقدمها لله, فيجب أن نخلص فيها ما أمكننا.
إننا بذلك نرضي الله الذي يراقب ضمائرنا حتي لو لم يبصرنا سيد أو رئيس, كما أننا بذلك نقدم لمجتمعنا قدوة ومثالا, للعمل المخلص لوجه الله وخير الجماعة, ونقدم لأسراتنا وعائلاتنا الدليل علي أن تبعيتنا لله وخدمتنا لم تدعنا نخل بواجباتنا والتزاماتنا نحو المجتمع الذي نعيش فيه. إنها علي العكس رفعت حساسيتنا بالواجب وزادتنا حبا للدرس والعمل والإنتاج لخير نفوسنا وخير الأغيار. إن من يحب الله يحب الحكمة, ومن يحب الحكمة يحب العلم, ويحب العمل, ومن يحب الله يحب الحق, ومن يحب الحق, لا يرضي عن الباطل, ولا يشبعه إلا الحق.
فإذا قرأ أو بحث أو درس فإنه في بحثه أو درسه, يسعي إلي الإتقان والاستعماق, لأنه يريد أن يحصل ثقافة حقيقية لا ثقافة سطحية, أو معرفة باطلة.
فلنبرهن للعالم الذي نحيا فيه أن الكنيسة إلي جانب رسالتها الإلهية الروحانية تستطيع أن تقدم بقوة مبادئها خير خدام للمجتمع, وأخلص جنود للحياة العامة.
والواقع أثبت دائما أن أعظم من أدوا للمجتمع البشري خدمات خالدة حقيقية هم الذين كانت تدفعهم دوافع الدين والتقوي.
إن المتدينين أكثر من غيرهم صبرا علي العمل, وأكثرهم حبا وإخلاصا للمعرفة وأكثرهم ميلا إلي إسداء الخير, وتحقيقه بين الناس في المجتمع.
رابعا- الخدمة:
نعم الخدمة. هذه هي رسالتنا ورسالتكم في كنيسة المسيح.
أنتم تجمعون الأطفال والشباب, وتعدون لهم الدروس, وتشرحونها لهم, وتصلون عنهم, وتهتمون بهم. إذا سألوا تجيبونهم, إذا مرضوا تفتقدونهم وتصلون من أجلهم, إذا نجحوا تفرحون معهم, وإذا فشلوا تحزنون لحزنهم, وتعملون عملا من أعمال الرعاية في دائرتكم الضيقة. إنكم تسهرون من أجل نفوس تلاميذكم.
هذه هي الخدمة, أو بعض نواحي الخدمة التي تقومون بها في مدارس التربية الكنسية.
الخدمة هي جهاد, وهي تضحية:
هي جهاد من حيث هي عمل روحي وفكري وجسماني.
هي جهاد لأنها نزاع وصراع دائم وعمل مع الله لتجاهدوا الشيطان عن أنفسكم, وعن نفوس الذين تخدمونهم.
وهي تضحية: تضحية بالجهد الذي كان يمكن أن تستغله لنفسك, وهي أيضا تضحية بالوقت الذي كان يمكن أن تستغله لنفسك, وهي أيضا تضحية بالمال الذي كان يمكن أن تستغله لأجل نفسك.
لكنك لا تدري عظم العمل الذي أنت فاعله.
أنت لا تدري أثر كل تضحية تقوم بها في مدارس التربية الكنسية.
راجع نفسك فتري أنك ثمرة لبذرة زرعها زارع, وإذا كانت نفسك ثمينة, فافرح إذا كان لك تعب من أجل نفس أخري ثمينة.
إنك عامل في حقل خصيب, وفي أرض جيدة, وجودتها مضمونة. فما أسهل مهمتك, ولكن ما أعظم نتائجها, وما أوفر بركاتها, يجب أن نؤمن بخدمتنا وبفعاليتها وعظيم ثمرها. يجب إذن أن لا نكل من التضحية, ولا نندم علي بذل الجهد والوقت والمال في سبيل العمل بين الأطفال والشباب.
وهنا أسمح لنفسي أن أنقض ما قلته منذ قليل.
أسمح لنفسي إن أقول إن بعض الخدام في مدارس التربية الكنسية يضحون بوقت وجهد ربما حرمهم أحيانا من بعض الدرجات, أو أضاع عليهم أحيانا بعض التقديرات العلمية الرفيعة. مثل هؤلاء أقول لهم لا تحزنوا, إذا لم تكونوا قد أضعتم أوقاتكم عبثا بل صرفتموها في خير الأطفال والشباب, فلربما كان جهدكم هذا عملا عظيما, هو أمام الله أعظم من الدرجات التي نقصتكم.
ربما لو كشف عن عيونهم لرأوا أن تضحيتهم كانت خيرا جدا بالنسبة للخير العظيم الذي حققوه لكنيسة المسيح. لست أقول هذا لأحرض الطلاب علي الانصراف عن إتقان دروسهم, فنحن ندعو دائما شبابنا إلي وجوب الدرس ونحرضهم علي القيام بواجباتهم بأقصي جهودهم, ولكننا نريد أن نلفت نظر أولئك الذين اضطرتهم مقتضيات الخدمة إلي بعض التضحية, أن لا يحتقروا العمل الذي يعملونه أو يعاتبون الله ويقولون لماذا نخدم ثم أحيانا نفشل في دروسنا؟!
الخدمة إذن خدمة جهاد, وخدمة تضحية بالجهد والوقت والمال. لكنها خدمة لله ولكنيسة المسيح, عظيمة الثمرات, موفورة البركات, جزاؤها كبير علي الأرض وفي السماء.
ومن عناصر الخدمة, الطاعة, الطاعة للمرشدين وللمختبرين.
يجب علي كل خادم بمدارس التربية الكنسية أن يكون مطيعا لمن هو أكثر منه خبرة وأقدم عهدا بالخدمة.
يجب أن يكون هناك انسجام بين خدام كل مدرسة, وهذا الانسجام لا يتوافر ما لم يكن هناك مبدأ احترام الصغير للكبير, واهتمام الكبير بالصغير.
ولا نقصد من هذا كبت الحريات, وسيطرة الأمناء وتحكمهم. وإنما نقصد أن يكون لدي المبتدئين بالعمل, الاستعداد للتلمذة الطويلة قبل أن ينقلوا إلي دور المسئولية العامة.
لا شك أن الصغير سيصبح كبيرا, والتلميذ قد يجئ دوره فيصبح معلما, ولكن علينا أن لا نعجل بإنهاء دور التلمذة, وأن لا نطمع في دور المسئولية قبل أن يكتمل دور النضوج.
إن الخدمة مدارس التربية الكنسية ليست هي خدمة ظهور. هي خدمة التعب والجهد ولها مسئولياتها أمام الله. ومن هو كفؤ لهذه الأمور؟.
وإذا قلت إن علي المبتدئين في الخدمة أن يطيعوا ويحترموا المتقدمين عليهم سنا وخبرة وعلما, فإني لست بحاجة إلي أن أوصي المتقدمين في الخدمة أن عليهم نحو زملائهم في الخدمة أن يحبوهم, ويهتموا بهم, ويصغوا إليهم, وينصتوا إلي أفكارهم, ويعملوا بالصالح منها لخير الخدمة وتقدمها, وعليهم بالصبر الطويل, وأن لا يثوروا لكرامتهم, ولكن أن يغاروا لله وللخدم.
وعلي هؤلاء وأولئك… علي كل خادم في مدارس التربية الكنسية… علي المبتدئين والمتقدمين, علي الخدام والأمناء, أن لا ينسوا بتاتا أنهم شمامسة صغار بإزاء كهنة الله في كنيسة المسيح.
فنحن نخدم بروح الطاعة للرؤساء, الطاعة عن احترام حقيقي, وحب حقيقي, واتضاع حقيقي.
إن الخدمة الناجحة دائما تقوم علي أساس الاحترام والحب.
قال الرسول أعطوا الجميع حقوقهم… الإكرام لمن له الإكرام (رومية 13:7).
ونحن حين نقول بالاحترام, والإكرام, لا نقول ذلك عن سياسة أو عن مكر, وإنما نصدر في كل ذلك عن نية صالحة, وقلب مفعم بالبساطة المسيحية. نحن نحب الرؤساء ونحترمهم احتراما حقيقيا, ومن القلب.
وقد تنشأ بين خدام مدارس التربية الكنسية وبين بعض الآباء بعض الإشكالات في محيط الخدمة. هذه مسألة لا نستطيع أن نتجاهلها, ولكن يجب أن نفهم ابتداء أننا لسنا دائما علي حق. فقد نكون نحن المخطئين, متجاهلين بعض الحقائق أو بعض العوامل. كما يجب أن نحاول التفاهم دائما بروح المحبة وبروح الاتضاع وأن نكون مدفوعين بروح الخدمة الحقيقية لا بروح العناد والأنانية.
وملاك القول يجب أن تكون سياستنا مع الآباء دائما سياسة الابن نحو أبيه أي سياسة حب واحترام, وأن لا نسمح لروح العناد والأنانية أن تطغي بحال علي روح الحب والاحترام.
كذلك, وعلي نفس الأساس, ينبغي أن تقوم علاقتنا بسائر الهيئات والجمعيات, فنحن نحب الجميع, ونحترم الجميع, ولا ننكر علي هيئة ما حقها في## شئ, نحن لسنا جمعية ولا هيئة من طراز الجمعيات والهيئات القائمة. نحن جماعة تعمل مع جميع الهيئات وجميع الجمعيات والجماعات. فينبغي أن نكون محبين للجميع, مستعدين للتفاهم مع الجميع ولكن لا علي حساب مبادئنا ومبادئ الكنيسة.
رأينا في الإصلاح:
لنا رأي في الإصلاح… ورأينا في الإصلاح هو أن الكنيسة لا تحتاج إلي إصلاح. فمبادئها سليمة, وعقيدتها قويمة, والإصلاح الذي نؤمن به هو العودة إلي نظم الكنيسة وترتيباتها القديمة, مع مراعاة حاجاتها المتجددة. الإصلاح في نظرنا هو فهم الأوضاع الأصلية وإحياؤها.
حملتنا في الإصلاح, هي أن نحمل نفوسنا علي معرفة الأوضاع الأصلية ومحاولة تنفيذها في دائرتنا الضيقة أولا, ثم ننادي بعد ذلك بها وبتنفيذها في جميع الدوائر الأخري, وهذا معناه, أن مبدأنا في الإصلاح هو أولا المعرفة, بالمبادئ ذاتها وثانيا العمل بهذه المعرفة.
بعبارة أخري, إننا دائما نحب أن نعرف ما يجب أن يكون. ثم نحاول في نفوسنا أولا أن نغير ما هو كائن إلي ما يجب أن يكون.
وأما الدائرة التالية لنشر مبادئ الكنيسة وأوضاعها الأصلية, فهي دائرة خدمتنا الأولي هي مدارس التربية الكنسية نفسها. هي دائرة الشباب الصغير, والشباب الكبير, بل أيضا هي دائرة الأطفال الصغار, عن طريق الشرح للأولين, والتلقين للآخرين.
هذه هي مبادئ مدارس التربية الكنسية
الروحانية والقداسة, محبة الكنيسة الأرثوذكسية والتعلق بها, مع التشبع بتعاليمها وممارستها, ثم محبة العلم الديني والطبيعي, والإقبال عليه, والتمكن فيه كلما أمكن ذلك, والخدمة, خدمة الجهاد, وخدمة التضحية بالجهد والوقت والمال, ثم العمل علي إصلاح نفوسنا ونفوس الأطفال والشباب علي أساس المعرفة بالأوضاع الأصلية, ومحاولة تطبيق ذلك علي نفوسنا, قبل نفوس الآخرين.
إننا نرجو أن يبارك الرب مدارس التربية الكنسية. ونرجو أن تمتد روح الخدمة في الكثيرين منا فندرك شرف هذه الخدمة, وأهمية تكريس حياتنا كلها لخدمة الله.
إن الكنيسة في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضي إلي خدام مدارس التربية الكنسية, أن يتقدموا إلي حياة التكريس التام. لقد تقدم البعض ونشتهي أن يتقدم أيضا كثيرون.
أما التكريس الصحيح, فيجب أن يبدأ أولا من الكلية الإكليريكية ليتلقي المكرس التوجيهات لحياة التكريس, والإعداد الروحي والذهني اللازم لها وبعد ذلك, يتحرك نحو العمل المبارك في كنيسة المسيح بحسب الدعوة التي يدعي إليها, ونوع الرسالة التي يرسل إليها.
وسلام الله يحفظ قلوبنا وأفكارنا في المسيح يسوع.